الروائية أميمة عبد الله: وقائع ليلة شتائية مدهشة
الروائية أميمة عبد الله: وقائع ليلة شتائية مدهشة | سأحكي القصة كي لا أنسى أبداً، ذلك كان قبل زمن، لكنه بالنسبة ليّ وكأنه حدث بالأمس القريب. إننا لا ننسى رعبنا بسهولة، تظل تلك اللحظات حاضرة دائماً في الذاكرة كما رائحة عرق الخوف الفائح، كلاهما يعلق في الواجهة.
ليلة شتاء قاسية بمصباح صغير يكاد لا يُضي محيطه، الرياح الباردة في الخارج تحرك ما خفّ وزنه من الأشياء فيخيف صوتها الأغنام .. تنبح الكلاب نباحاً متقطعاً، كأنها تُعلن عن وجودها.. لم أستطع النوم، تقلبت كثيراً علَّ جفني يغمض.
أنفاسهم جميعا منتظمة، أمي وأخواتي، كنت أراقبهم بمحبة وأستمتع بصوت أنفاسهم وأنا أراقب تقلبهم في نومهم العميق، متعبون طيلة النهار لا نهدأ، الحياة تبدأ باكرا مع أول خيط ضوء يتوفر، وتنتهي باكراً مع أول خيط ظلام يحلّ.
نقطة في مكانٍ ما بعيدة عن كل العالم ، قرية صغيرة تائهة في نهاية خريطة الكون، نطلّ عليه من بعيد، قرية نبعت هكذا وحدها قرب واحة ماء لم يكن على آية حال وفيراً بالقدر الذي يجعلنا نتصرف فيه بسخاء، خمسة عشر أسرة قوامها وفقا لعطاء الواحة.
كنا فقراء .. أبسطة الجلوس على الأرض مصنوعة من الحصير ومن جلد الأبقار، وعناقريب بأرجلٍ قصيرة بلا فرش، و ركن قصي بداخل “الكرنك” لتخزين الذرة والكسرة المجففة والبصل والفحم ، كنا نشتريها من دكان العم فاضل، ذلك الرجل الوضئ المبتسم في وجوهنا دائما.
يلاطفنا حتى لو كانت الدنيا حر وليس بالدكان شئ يُشترى، ومع ذلك كانت السماء كلها لنا، بنجومها وقمرها، تضئ لنا ببهائها الرمال كل ليلة، فيحلو لنا السمر واللعب. من أستطاع بنى لتفسه بيتاً من الطين والقش، وآخرون شيدوا كرانك واسعة من الطوب الأخضر والعيدان المتينة و تلك كانت قليلة.
نصيبنا من الدنيا واحة، وأحواض زراعتنا و أغنامنا وهذه الرمال الممتدة مد البصرو كأنها هناك ملتحمة مع الأفق البعيد.
كنا نأكل حصاد ما نزرع حول الأحواض، و كان طعمه جميلُ على الدوام، أحببت أغنامنا، و الأغنام أيضا تحبني، نخرج معنا كل صباح أنا اجلس تحت أحد الأشجار أراقبها وهي لا تذهب بعيداً، مهاراتٌ جعلت أبي يقربني إليه، كنت أحفظ أسماء النجوم و مواقعها أحدد الإتجاهات بها وأبشر أهلي بقرب المطر وفقاً لحركة الرياح وشكل السحاب فجراً، .
كما يمكنني تقدير الوقت عن طريق الشمس حسب إنعكاس طول ظل جسدي على الأرض وموعد هبوط المساء، أحب الركض كثيراً كما الفتيان وكثيرا كنت أتفوق عليهم أيام السباق، وكانت سباقات الليل أحلى و أجمل تحت نور القمر ، لا شئ يشغل تفكيرنا، غير أننا كنا سعداء، نجهل تماما ما يدور من حولنا، وكأن لا أحد معنا في النواحي، في الجهل مع غنى المال خطورة إلا أنه مع الفقر أفضل.
لم أكن أعرف غير متابعة أحواض الزراعة حول الواحة والرعي، و كنت ماهرة في كليهما، أخرج مع الأغنام منذ الصباح الباكر بعد أن أتزود بقطعٍ من الكسرة الجافة، طيلة ساعات النهار أكون معها، رعاية الأغنام أو المعز لم تكن صعبة بالقدر الذي تتطلبه رعاية الضأن مثلاً.
أجلس تحت ظل شجرة و أراقبها وهي تأكل كما أنها غر متطلبة للماء يومياً، وكان الماء هو أغلى ما نملك، عليه تُنشأ القرى وعليه تنزح أو تستقر، ومع ذلك كنت كثيرة الخوف، الخوف من جفاف الواحة، من الظلام، من نهارات الحر الحارق، فأنا على الدوام حافية، ومتوجسة من الغرباء ، اتوجس بشكلٍ مستمرٍ ولأيام كلما عبرت سيارة قريبة من نواحينا أو خيول، مع أنه نادراً ما يمر بنا عابرون.
لكن العابرين على قلتهم كانوا يخبرونا عن قتال و حرب بعيدة منا، دائرة بعنف بين الحكومة وجماعات من شعبها، يقولون أن البلاد مثقلة بالإتهامات وعبارات التهديد بين حكامها وكأنهم أعداء وليسوا قادة ، التخوين بينهم جعل كلاً منهم يفكر في قنص الآخر وأن يستبق ليكسب.
والجماعات المسلحة التي تقاتل الحكومة تتفرّخ وتنشق عن بعضها ككائن استثنائي الخصوبة، والنزاع يتوسع، وكنت أدعو الله دائما في سري آلا يصادفوني، قالوا أن هذه الحروب ليست بعيدةً عنا، نحن الفتيات نخاف الغرباء الملثمين والصوت القاسي يوقف قلوبنا.
النقاشات الحادة تتحول مباشرة إلى انقسامات وتخوين ومواجهة لينفض الكل وهم على خلاف هكذا هو الحال، كثر القادة وكثرت الجماعات في المنطقة الواحدة، وتفرقت القرى الآمنة بالنزوح وهُجرت حقول وأُحرقت مساكن وباتت القرى والفِرقان غير آمنة، ومات الناس دون سببٍ واضح وإختلط عليهم أمر الحق مع الباطل.
هكذا كانت تقول الأخبار وهكذا كان يقضي أبي لياليه مع بقية الرجال أمام بيتنا، كنت أسمع كل تلك الأخبار المتناقلة و خيالي كان يحضرها أمامي. أبي كان رجلاً صبوراً، يحبنا كثيراً، نحن حياته، بنى لنا بيتنا قرب الواحة، واسعاً ومظللاً وعلى سوره باب.
إلا أن شيخ عبد الجليل كان يُطمئنهم، ويتلو عليهم آياتٍ من القرأن الكريم عن الثبات والسكينة فتهدأ نفوسنا نحن السامعين.
– لا تخافوا قريتنا بعيدة عن كل ذلك.
– نخاف على الصغار والنساء يا شيخنا والأخبار لا تتوقف عن القتال والحريق.
– الصحراء تحمينا ، لن يقتربوا، منطقتنا جافة وغير مشجعة للعبور
– لماذا يتحاربون معنا وكلنا فقراء ؟
هكذا تمتم أبي ، سأل شيخ عبد الجليل دون أن ينتظر منه إجابة، ومن يآمن على نفسه وهو في خلاء كهذا؟
كنا نسترق السمع لنعرف، فنحن ضعفاء تنخرنا الحاجة. في ضوء الشمس بعض أماننا وعادة الناس تخاف المجهول لذا كان الليل عندنا دائما مزدحماً وخصباً بإعادة أحداث النهار، طول ساعات الليل يضخمها ويجعلها ثقيلة، فننام متعبين من الهم، كنت أراقب أخوتي وهم في نومهم العميق ذاك يتدفأون ببعضهم، فالليلة أكثر برودة عن سابقتها.
ثلاث بنات وأربعة أولاد، وكنت الوسطى والمكلفة دائما بأعمال تفوق طاقتي، لكنني أعتدت علي الصبر والإحتمال كما اعتدت على الجوع والسير مسافات طويلة والفستان المتواطئ سراً مع الشمس والبرد وأيضا الصمت للحفاظ على طاقتي قدر المستطاع، لكن كل ذلك لم يفلح في تحويلي إلى فتاة متشائمة، كنت محبة للحياة ، متفائلة بالشمس، أفوز في سباق الفتيان، سعيدة بأيامي ورفيقاتي.
في ليلة الشتاء تلك كان البرد يشتد مع تقدم الليل، الوقت يمر بطيئاً، لم استطع النوم، فالجوعى لا ينامون بسهولة وكذلك القلقون، يتقلبون كثيراً ، وكنت الاثنين معا، لمحت بعض الغرباء نهاراً وأنا أسعى خلف الأغنام والضان لنأكل معاً من فتات الأرض ..
– يا بنت، صرخ أحدهم بصوتٍ غليظ وهو يقترب مني، ملثم ويحمل في يده عصا غليظة
– لمن هذه الأغنام؟
– لأبي
– هل أبوكِ الشيخ هنا؟
– لا… قلت ولا أدري إن كان سمعها أم لا، خرج صوتي ضعيفاً، بالكاد سمعته.
– معكِ ماء ؟
– أشرت نعم، دون أن أفتح فمي، أو ربما فتحت فمي إلا أن صوتي لم يخرج.
شرب و ترك الباقي، ذهب دون أن يقول شيئا إضافياً.
لم أخبر أحداً، احتفظت بالكلام لنفسي، يبدو مغبراً من طول سفر، عيونه متعبة ، كلماته قوية وحادة، كان بإستطاعته أن يرفعني عن الأرض بقبضة يدٍ واحدة.
لكن بعض الهمهمات سرت ليلاً ووصلت خيمتنا، جاءت الحكامة بخيته و أخبرت أمي
.. غرباءُ كُثر على المشارف.
تحرى شيخ عبد الجليل الخبر، جاء باليقين، إنها إحدى الجماعات الحاملة للسلاح، نحو خمسين رجلاً، سيعبروننا قاصدين مكاناً آخر، أبي مع بقية الرجال كانوا في حيرة من أمرهم، أيخرجون إليهم أم ينتظروهم هنا، داخل القرية.
لكن تلك مخاطرة.
هكذا نبه أحدهم،
الأطفال والنساء، لا أمان لمن يحمل السلاح يا شيخنا.
السلاح لا يجلب العمار بل هو أساس الخراب ، هكذا اتفق الجميع في الرأي، كانوا مجتمعين قرب بيتنا، صمتوا زمناً كأن الكلام أستعصى ، طال الصمت، أظن أنهم كانوا ينتظرون شيخ عبد الجليل، فهو رجل رأي وهيبة ، في ملامحه وقار وطيبة وبعينيه
صفاء وأمان تحسه ما أن تجالسه ، لا بد من لقائهم، الأفضل أن نخرج إليهم ، ليبقى أثنين لحراسة النساء والأطفال والزرائب ..
انفضوا في ضوء القمر البهي، قاموا بقلوب حائرة وأقدام وجلة، فنحن لسنا أهل حرب، ركبوا حصينهم وغادروا قاصدينهم، بقينا نحن فزعين، سكون عميق حلق فوقنا ، طوقنا به حد الإختناق.
كنت مسجونة داخل هلعي، نبضات قلبي تكاد تخترقني لتنتشر هاربةً، قدماي سرى بهما خدر كثيف، متكرفسة في ركن القطيه الايمن، رأسي بين ساقي، لا أحس بقية أطرافي وكأني بلا ثقل كنت، خفيفة في مهب الخوف أترقب، والترقب يمط الوقت والخوف يُذهب العقل والهم يجعل كل شئ ثقيلاً.
من أين أتيت بكل هذا الخوف، هكذا تمتمت لنفسي سائلةً ..
للخوف رائحة غريبة وكريهة، وتعرّق جلدي في تلك الليلة شديدة البرودة، لا شعور أسوأ من الخوف، تبعاته تبقي زمناً محشورة بأنوفنا، لم نكن نملك شيئا نخاف ضياعه، فقط أرواحنا لكنها كانت غالية علينا وثمينة ، تسافر روحي كل ليلة نحو السماء و تقرّبني من النجوم حد لمس توهجها، تطوف بيّ الأرجاء تؤانسني وتبهج قلبي.
لم يستيقظ أخوتي لكن أمي سمعت كل شئ.
كنت أكثر رعباً منها، غاطسة في أوهامي، سأموت، حان وقت موتي ، أباكراً هكذا!؟
لم تنتبه لإنكماشي حد الفناء، تهدهد أخي الرضيع رغم أنه لا يصدر صوتا ، إلا أنه الترقب الذي بدأ يُقلقها.
وددت لو أستطيع الجري، سأتركهم كلهم خلفي، أمي، أخوتي وأبي، لا أهتم لهم، أقطع الخلاء عدواً بلا تلفت، أعرف الطريق جيداً، زدت التصاقاً ببعضي، علّني أخفف من فزع قلبي ونبضاته المتسارعة، كل طاقتي أستنفدها الترقب، لم أعد أقوى على الكلام ولا السؤال حتى، كيف سأجري اذا ؟ .
غير أني ابتلعت كل مدخر شجاعة وعرفت أنني لا أحب الفضاء المكشوف ولا قريتي ولا الغرباء العابرين ولا العنزات و لا بقرتي الحلوب ولا حكايات الحرب التي كانت تصلنا من أفواههم ولا كلهم ولا حتى الغرباء العابرين، الأمان لا يُفاضل.
سنموت جميعاً ، موت بشع مشبع بالرعب، سيسحبوننا على وجوهنا، يجرون أمي كشاة مذبوحة، سيقتلوننا بأسلحتهم التي يعلقونها على أكتافهم وسكاكينهم الصدئة ونحن غير محصنين، صراخنا ستذكره الصحراء والسماء ما بقيت.
شعرت بقلبي يسيل، يتقطّر كما نقاط الماء من قِربة ندية، بأصابعي كدت أحسها او هكذا ظننت من عظيم هواجسي، الكل ساكن، كأنهم تماثيل حتى أخي الرضيع جرفه خوف فطري فسكت،حتى الكلاب هدأت، كلنا في انتظار الرجال
بعد قلق طويل وخوف لو استمر لدقائق إضافية لخنقني قطعاً، عادوا، استنفار حواسي جعلني أسمع حوافر الحصين قبل الكل، قلت بصوت لا أعرف كيف خرج ولا من أين
.. عادوا يا أمي
دخل أبي علينا بوجه غير الذي غادرنا به ، ملامحه أكثر انفراجاً، نظر ناحية أمي قائلاً
اصنعي كل ما في البيت من طعام ، هم جائعين
وكأنه نطق بالحياة، قامت أمي سريعاً، لم نكن نملك الكثير ليُصنع
و في هدوء الليل ذاك كنت أسمع حركة النساء في الجوار و هن ينفخن في النار
الكثير من الطعام كان قد صُنع وخرج لساحة الصلاة ، على فقرنا لم نكن مهووسين بتخزين الطعام
صدق من قال:
أن حامل السلاح غالبا لا يُطمأن له، لا عهد له ولا ميثاق
الجماعة كانت في حاجة ماسة لرجال عددها تناقص نتيجة مواجهة مسلحة مع الحكومة، تغلبت فيها عليهم، لم نكن نعلم إلى أي فئة ينتمون، لكنهم قالوا أنهم من أجلنا يحاربون، من أجل حياة كريمة للكل، شيخ عبد الجليل رد عليهم قائلاً:
الإنصاف لا يأتي بالعنف والعنف لا يلد خيراً قط
لكن القتال أعماهم عن كلام العدل.
القوة وحدها تجلب الحقوق يا شخنا
– إننا لا نحارب من أجل أنفسنا ، الظلم والفقر في كل مكان ، يجب أن تكونوا معنا
– هنا لا خطر إلا خطر العطش، يؤذينا أكثر من الحكومة التي تتحدثون عن ظلمها
لكن كيف يحاربون من أجلنا ويأخذون غطاءنا، رجالنا عكازة لنا وستر النساء هنا، سيجعلوننا مكشوفين للصحراء والعدم، هم أمان القرية، لكنهم استكثروا علينا فقرنا، هددوا إن لم يذهب معهم بعض الفتيان سيحرقون القرية ويخلّفونها رمادا.
طال الجدال وأمتد حتى الفجر الأول . حاول فيه رجالنا ان يقولوا لهم أننا لا نبحث عن الفردوس بل عن الماء فقط فهى حياتنا وكفى لكنهم قالوا أن الحق معهم ، ولابد من سندهم، هكذا فضوا الحوار وهم ينفضون عن ثيابهم بقايا الرمال العالقة .
وكان عدلهم لنا أن ذهب فتياننا وبقينا للصحراء طعاماً لكن بدماء حارة.