
على عسكوري :الشعوبي دونالد ترمب .. بداية تفكك امريكا (٢-٢)
خطورة المنهج الشعبوى انه يغذى بصورة مباشرة النزعات الانفصالية، ذلك بالضبط ما حدث في اوروبا بعد معاهدة وستفاليا. انتجت الشعوبية في اوروبا مناطق يصعب القبول بها كدولة، لا مساحة ولا سكانا،
فمثلا دولة مثل لوكسمبورج مساحتها حوالى ٢٦٠٠ كلم مربع وسكانها حوالى ٧٠٠ الف نسمة، اما ليشنشتاين فمساحتها حوالى ٦٢ ميل مربع (نعم ٦٢ فقط) وسكانها حوالى ٤٠ الف نسمة (اى ٤٠ الف نسمة) فقط، وهكذا يمكن ان تقيس على ذلك كدول مثل الفاتيكان، سان مورينو، وجبل طارق ومالطا وغيرها.
لا شك عندى ان النهج الشعوبي الذى يتبناه الرئيس ترمب سيغذى وسيقود تدريجيا الى تفكك امريكا الى دويلات كثيرة. بالطبع هذه حتمية تاريخية تسير ببطء لن تحضرها اجيالنا ولكن لا مفر منها، فامريكا مهما قويت لن تخرج عن حتميات التاريخ والصراع الازلي بين البشر وبحثهم المضني عن مجتمع يوفر لهم العدالة وتحقيق ذواتهم.
تصريحات ترمب عن ضم كندا والمكسيك وقناة بنما تعيد لنا ذكريات تاريخ الاوروبيين واندفاعهم لاستعمار الشعوب الاخري والتوسع على حسابها ونهبها، وفي نهاية الامر نهضت الشعوب وطردتهم وهكذا انهارت امبراطورياتهم وتآكلت وانزوت وذهبت ريحها..” فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ” (سورة الدخان).
من الراجح عندى ان تصريحات ترمب تسببت في قشعريرية ليس فقط في الدول التى اشار اليها، بل غالبا داخل الجيش الامريكي نفسه، اذ لن يجد قادة الجيش مثلا مبررا لغزو كندا او المكسيك او اى دولة اخري، خاصة وان امريكا قد دحرت من قبل في مناطق كثيرة في العالم .
ستتسبب تلك التصريحات في تغذية الشكوك في اوروبا ايضا، حتي عند صديقتهم المقربة انجلترا، اذ ما تزال كندا تحت التاج البريطاني، وسيقول الاوروبيون لانفسهم :ان كان لامريكا اطماع في ضم كندا والمكسيك فبالضرورة لها اطماع سرية في ضم اوروبا. و لاوروبا شكوك قديمة حول مواقف امريكا ونواياها (راجع مقالى: اوروبا وامريكا: هل حان الفراق).
خلافا لما يراه الكثيرون حول قوة امريكا ومنعتها، اعتقد ان امريكا دولة هشة من الداخل، وان توجهات ترمب الشعوبية ستغذى لامحالة نزعات استقلالية داخلية، فمنطق (امريكا اولا) سيقود لمنطق (ولايتنا اولا) وسيتصاعد تناقض الأولويات بين الولايات المختلفة ليغذى النزاعات الاستقلالية عند الولايات لا محالة خاصة لو اتبع ترمب اقواله بالعمل.
ختاما، وما يمكن قوله هو ان (الحضارة الغربية) قد بلغت مداها وافلست ولم يعد لها ما تقدمه للبشرية، فبذات الصيرورة التى تآكلت بها الامبراطوريات الاوروبية ستتآكل الهيمنة الامريكية، وما انتخاب رئيس شعوبي الا اكبر دليل على افلاسها، فالتاريخ لا يعود للوراء وقد سقطت الشعوبية منذ قرابة القرن.
فهاهي امريكا بكل علمائها ومفكريها وكتابها ومثقفيها لا تجد من يقودها سوي شخص اقرب للمصارع منه الى القائد، بلا فكرة سوى الاطماع الامبريالية وتحقيقها بقوة وجبروت الدولة. وبدأ واضحا ان معين المفكرين والمثقفين الامريكان فيما يتعلق ببلادهم ومواطنيهم وتوجهاتها قد نضب، فركبوا قطار الدهماء.
ولربط ما يدور في امريكا وتوقعاتى بما ستؤول اليه بحالنا في السودان، اشير الى ان اهم ما تسبب في الاوضاع الحالية والتدهور الذى انتهينا اليه من واقع مرير في جوهره ما الا نتيجة القمع الطويل للمفكرين والمثقفين الوطنيين تحت الانظمة العسكرية منذ عبود انتهاء بالبشير ودولته الدينية المتطرفة التى تفننت في قمع المثقفين الذين إما هاجروا او صمتوا توخيا لسلامتهم،
ومع اختفاء قادة الرأي في عهد البشير نهض بعض الرجرجة يدعون لجهوية ومناطقية وقبلية (شعوبية محلية متخلفة) فى محاولة لملء الفراغ الفكرى في البلاد فتقاصرت قاماتهم عن ذلك فسقطت البلاد الى ما هي عليه اليوم! واصبحنا نرى مجموعة تقول انها تقاتل من اجل الديمقراطية ولكنها تستهدف مجموعات قبلية باسمها لابادتها، والقحاتة صامتون!
ملعون ابو الديمقراطية!
هذه الارض لنا