مقالات

كيف تفرض الخرطوم نفسها كقوة إقليمية في خضم الأزمة الشرق أوسطية؟

د. عبدالعزيز الزبير باشا  

في خضم التحولات الدراماتيكية التي يشهدها الشرق الأوسط ، ومع اشتداد الأزمات الأمنية والسياسية من فلسطين إلى الخليج، تبدو بعض الدول وكأنها محكوم عليها بالتهميش أو التبعية، بينما تلوح في الأفق فرص نادرة لدول أخرى كي تعيد رسم موقعها الاستراتيجي في الإقليم.

بل وتعيد تعريف معادلات القوة. *السودان* رغم ما يعانيه من تحديات داخلية جسيمة، يملك اليوم فرصة تاريخية لتثبيت موقعه *كقوة إقليمية* صاعدة على *المستويين* الإفريقي والعربي، إذا ما أحسن استخدام أوراقه الجيوسياسية بذكاء وحكمة…

أولا:

*السودان في قلب إلتقاء الجبهات*

لا يُنظر إلى *السودان* تقليدياً كجزءٍ فاعل في معادلات الشرق الأوسط، لكن هذا التصور تغيّر في السنوات الأخيرة، خاصة بعد اندلاع الحرب العدوانية التي شنتها مليشيا الدعم السريع المدعومة خارجياً، والتي كشفت مدى أهمية السودان كجسر جيوسياسي بين شمال إفريقيا، القرن الإفريقي، و شبه الجزيرة العربية و محيط الشرق الأوسط..

إن موقع *السودان الاستراتيجي* عند مفترق طرق بين البحر الأحمر، ومنابع النيل، والساحل الإفريقي، يجعله لاعباً لا غنى عنه في أي ترتيبات أمنية واقتصادية مستقبلية للمنطقة. فهو يشرف على خطوط الملاحة البحرية العالمية، ويجاور دولاً ذات حساسية أمنية كإثيوبيا، تشاد، ليبيا، مصر، وإريتريا، وله عمق متكامل ( *عربي أفريقي* ) متداخل لا تمتلكه أي دولة أخرى….

*ثانياً:*

*الأزمة الشرق أوسطية كنافذة للنفوذ*

الأوضاع المتفجرة في غزة، والاشتباكات الإقليمية غير المباشرة بين إيران وإسرائيل، والأزمات المتصاعدة في لبنان واليمن، كلها تعيد رسم أولويات الدول الكبرى في المنطقة. وفي هذا السياق، يمكن للسودان أن يلعب دور “ *الدولة المحورية القادرة على التأثير* ”، لا سيما مع تراجع بعض القوى التقليدية، وانكشاف *هشاشة* مواقف دول الخليج أمام الضغط الشعبي والدولي…

السودان، بشعبه المقاوم وجيشه الوطني المدعوم من قطاعات واسعة من المواطنين، يملك الآن شرعية أخلاقية وشعبية تجعله في موقعٍ أفضل من غيره لقيادة خطابٍ *محوري* جديد، لا يستند فقط إلى منطق التحالفات، بل إلى الرؤية والمبادرة…

*ثالثاً:*

*القوات المسلحة السودانية كرافعة للمكانة الإقليمية*

لا يمكن الحديث عن صعود السودان دون الاعتراف بالدور المحوري الذي تقوم به القوات المسلحة السودانية الباسلة في حماية سيادة البلاد، والتصدي للمشروع التخريبي الذي استهدف الدولة من الداخل، وبدعم خارجي مكشوف….

لقد أثبت الجيش السوداني، في ظروف بالغة التعقيد، أنه ليس مجرد مؤسسة عسكرية، بل هو ركيزة أساسية لبقاء الدولة، ومنصة يمكن البناء عليها لصياغة رؤية استراتيجية للأمن القومي السوداني..

إن استثمار نجاحات القوات المسلحة، وتعزيز قدراتها، ودمج الطاقات المدنية والبحثية معها في صياغة استراتيجية إقليمية مدروسة، هو أحد أعمدة إعادة تموضع السودان في الساحة الدولية..

الجيش السوداني اليوم لا يدافع فقط عن العاصمة، بل عن الجغرافيا الوطنية بأكملها، ويمثل عامل توازن استراتيجي في الإقليم، خاصة في ظل تفكك العديد من الجيوش النظامية المحيطة، أو وقوعها تحت سيطرة قوى أجنبية..

*رابعاً:*

*تعميق البُعد الإفريقي في الرؤية السودانية*

إن أي رؤية استراتيجية سودانية لا تضع إفريقيا في صلب اهتماماتها، ستكون قاصرة وقابلة للانكشاف. إفريقيا لم تعد القارة المنسية. إنها اليوم ميدان تنافس دولي بين الصين، روسيا، الغرب، وتركيا، وكل منهم يحاول كسب النفوذ السياسي، الاقتصادي، والعسكري…

للسودان علاقات تاريخية راسخة مع عدد من القوى الإفريقية المؤثرة، ويمكنه الآن إعادة تفعيل هذه العلاقات ضمن محور جديد يقوم على:

• *التنسيق الأمني لمواجهة الإرهاب، التهريب، والميليشيات العابرة للحدود…*

• *التعاون في مشاريع البنية التحتية، خاصة في مجالات الطاقة، النقل، والربط الكهربائي..*

• *تبنّي موقف موحد من القضايا الإقليمية الكبرى مثل سد النهضة، والوجود الأجنبي في القارة، والسيادة على الموارد…*

يمكن للسودان أن يكون صوتاً *مركزياً* في الاتحاد الإفريقي، مدعوماً بتحالف مع دول مثل الجزائر، نيجيريا، وزيمبابوي، لإعادة تعريف دور إفريقيا في النظام الدولي الجديد….

*خامساً:*

*من موقع المفعول به إلى الفاعل الاستراتيجي*

لكي يتحول السودان من ضحية لمؤامرات إقليمية ودولية إلى *لاعب مؤثر* في صنع هذه المؤامرات ذاتها، عليه أن يتبنى نهجاً *استراتيجياً* يقوم على:

1. تحقيق *الاستقرار الداخلي* بكل الوسائل، بما في ذلك إعلان التعبئة العامة وتوحيد الجبهة الوطنية خلف الجيش والدولة…

2. بناء *تحالفات ذكية* مع دول إفريقية قوية تقوم على مبدأ أستقوام المصالح في تدعيم هيبة السيادة الوطنية و مؤسساتها…

3. إعادة التموضع الشرق أوسطي عبر خطاب مبدئي مستقل، يؤكد مركزية القضية الوطنية ، ويعارض التطبيع المجاني و التبعية الخرساء، ما يضفي على السودان مصداقية سياسية فريدة في محيط الشرق الأوسط…….

4. استثمار أزمة البحر الأحمر لإعادة طرح السودان كضامن أمني حيوي في هذا الممر الاستراتيجي، في وجه التمددات الخبيثه والتخبط الخليجي….

*سادساً:*

*ضرورة التخطيط بعيد المدى*

لا يمكن للسودان أن ينجح في لعب هذا الدور ما لم يتم تبني و تفعيل عقلية الدولة الإستراتيجية، القائمة على التخطيط بعيد المدى، و تفعيل أدوات مؤسسات الوطن الرصينة ، وليس فقط الاكتفاء بردود الأفعال العسكرية أو الإعلامية….

المطلوب هو *تفعيل* مجلس وطني للسياسات الاستراتيجية، يضم خبراء في الأمن، الاقتصاد، العلاقات الدولية، والذكاء الإصطناعي، قادر على *استشراف* التحولات الكبرى وتوجيه *القرار السوداني* نحو تحقيق *المصالح العليا* للدولة ( *المجلس الأعلى للتخطيط الاستراتيجي* ) …

*خاتمة:*

*الفرصة لا تنتظر المترددين*

في عالم تتغير فيه الخرائط السياسية كل *خمس سنوات* ، وتنهار فيه الدول أو تصعد تبعاً لقدرتها على فهم التحولات واستثمارها، لا تملك السودان ترف الانتظار أو التردد. عليه أن يقرر الآن: إما أن يكون رقماً صعباً في معادلة الشرق الأوسط الجديد، أو أن يبقى مجرد هامشٍ في معادلات الآخرين…

*السودان* يمتلك المقومات، ويواجه التحديات، لكنه يملك أيضاً *الإرادة الشعبية* التي أثبتت أنها قادرة على الصمود في وجه العدوان. آن الأوان أن يُترجم هذا الصمود إلى مشروع *استراتيجي وطني* ، يعيد للسودان مكانته، ويمنح المنطقة *صوتاً جديداً* مختلفاً.

 

مجلة حواس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى