زحل نيوز | الخرطوم
“حين يتكلم الضمير فينا فإن المجتمع هو الذي تكلم”.. إميل دوركايم..!
من تراث الكوميديا في السينما المصرية فيلم “العتبة الخضراء” الذي يقوم فيه أحمد مظهر ببيع ميدان العتبة لإسماعيل ياسين، والقصة مستوحاة من قضية بيع الترام الشهيرة التي وقعت أحداثها بين محتال قاهري وفلاح ساذج..!
القاسم المشترك بين حبكة الفيلم والقصة الحقيقية هو فكرة الاحتيال المبنية على وجود عملية بيع وشراء يكون فيها المَبيع – أو ما يسمى في القانون بمحل العقد – شيئاً حقيقياً ومحدداً لكنه غير مملوك للبائع. ومن هنا تنشأ عملية بيع وهمية يقوم فيها المشتري بدفع مبلغ من المال مقابل امتلاك شيء ما، بناء على معلومات كاذبة..!
لكن ماذا لو قام أحد الأشخاص بعرض بعض اللا شيء أو الفراغ مقابل مبلغ مالي محدد ثم وافق شخص آخر على دفع ذلك المبلغ لشراء الفراغ، وتسلم بعد ذلك شهادة رسمية تثبت ملكيته لذلك الفراغ..؟
هل تبدو لك تلك الصفقة منطقية لأن البيعة تمت بعلم الطرف الآخر ورضاه، أم تبدو لك فكاهيةً لأن المادة لا تَفنى ولا تُستحدث من العدم، أم أن الإجابة المُثلى هي الإثنين معاً على طريقة الكوميديان الأمريكي الشهير “غروتشو ماركس” الذي قال يوماً إن “الفكاهة هي منطق جن جنونه”..؟
الناس عادةً أذا أرادوا أن يدللوا على أن هنالك سبباً لوجود الشيء يقولون إنه لم يأتِ من فراغ، ولكن هنالك فنان تشكيلي إيطالي اسمه “سالفاتوري غاراو” قام قبل نحو ثلاث سنوات ببيع منحوتة غير مرئية – يعني غير موجودة من أساسه – في مزاد علني مقابل خمسة عشر ألف يورو. وقد تمت عملية البيع بالفعل وحصل المشتري على شهادة موقعة من البائع تثبت ملكيته لتلك المنحوتة، أي ملكيته لبعض الفراغ..!
الرسام واجه الانتقادات التي تعرض لها قائلاً إن عمله الفني المزعوم ليس “لا شيء”، لأن الفراغ ما هو إلا مساحة مليئة بالطاقة، وحتى لو أفرغنا تلك المساحة فإن اللا شيء نفسه هو شيء له وزن..!
ولتعزيز وجهة نظره استدل ذلك الرسام بنظرية “الريبة” – لعالم الفيزياء الألماني الحائز على نوبل “هايزنبرغ” – التي تؤكد أن الإنسان ليس قادراً على معرفة كل شيء بدقة ولا يمكنه قياس كل شيء بدقة، وإنما هناك قدر لا يعرفه ولا يستطيع قياسه، لذلك فإن الفراغ له طاقة تتكثف وتتحول إلى جسيمات في دواخلنا..!
لون آخر من ألوان الانعكاس المادي للفراغ وجدته في نظرية “فضاء الاحتمالات” للفيزيائي الروسي المعاصر المتخصص في ميكانيكا الكم “فاديم زيلاند”، وهي تقول باختصار إنك لو أردت شيئاً ما فتخلى عنه مشاعرياً دون أي أحكام سلبية، لأنك عندما تريد شيئاً ما بشدة فإن موقفك هذا يخلق “فائض احتمال” يسبب خللاً في توازن طاقتك وطاقة الكون من حولك، فينعكس شعورك بالفراغ والعوز على الواقع المادي من حولك..!
هل فكرت يوماً بجملة “الحرب دي ما قامت من فراغ” التي كنا وما نزال نرددها منذ اندلاع هذه الحرب كلما تعثرنا بمظاهر الاستغلال والاستهبال والجبن والجشع والحفر والغدر والظلم واللؤم في سلوكيات بعضنا تجاه بعضنا الآخر في مناطق النزوح ودول اللجوء..؟
هل لاحظت مرةً أننا عندما نردد تلك الجملة نقول – بعبارة أخرى – إن اندلاع هذه الحرب ما هو إلا انعكاس مادي لذلك الفراغ الأخلاقي الذي يملأ تجويف القيم في وجداننا القومي؟.