منى أبو زيد: كل الطرق تؤدي إلى جدة!
منى أبو زيد: كل الطرق تؤدي إلى جدة! | “النزاهة الوطنية ليست عقاراً يباع في الصيدليات، والعدالة الإنتقائية هي أول مسمار يدقه الساسة في نعش السلام” .. الكاتبة ..!
لستُ أذكر إن كنت قد رويت لك هذه الحكاية من قبل أم لا، وإن كنت قد فعلت فأرجو أن تسمح لي بإعادة مختصرة سيكون لها ما بعدهامن الكلام المباح..!
يُحكى أن أكاديمياً مرموقاً كان قد اختار في شبابه أن يستثمر علمه في جامعة ذائعة الصيت بإحدى الدول الأوروبية، ثم مرَّت الأيام وتعاقبت الفصول على هجرته تلك حتى أدركته الكهولة. وفي إحدى زياراته للخرطوم دخل على أحد زملاء مهنته في مقر عمله، فوجده يشمر عن ساعديه وهو يهم بتناول إفطاره البلدي “عصيدة ذرة وملاح ويكاب” ..!
بعد السلام و”المطايبة” دعاه صديقه إلى أن يشاركه الطعام، فتمنَّع قليلاً قبل أن تتسلل أصابعه إلى أطراف العصيدة اللذيذة. ثم دارت دوائر “الونسة” واستقر بها المُقام في أوان عودته النهائية إلى البلاد، فاختار الضيف أن يتستر على مخاوفه الكثيرة..!
وبينما كان يفكر في تجميل الأسباب سقطت بضع قطرات من “الملاح اللايوق” على ربطة عنقه الأنيقة – التي كانت باهظة الثمن – فصاح مخاطباً مضيفه في حَنَقٍ عظيم “ما داير أرجع عشان جنس ده” ..!
بعض مواقف البشر لها أسباب حقيقية يعمدون إلى تغليفها بأسباب أخرى “وجيهة”، وتلك الأسباب لا تخضع عادةً لعناء التحليل إن هي لم تبرح إطارها الإجتماعي العفوي، لكن ذات الأقوال والأفعال في عالم السياسة لها شأنُ آخر مع ردود أفعال المراقبين وخُلاصات المحللين، ليس لشيء سوى أنها تتحول بعد إتيانها – فعلاً أو قولاً – إلى شأنٍ عام ..!
سقراط يقول “تكلم حتى أراك” وفي عالم السياسة تقول الحكمة المستقاة من تعاقب التاريخ “إغضب حتى أراك”، فالغضب السياسي الذي صاحبه مقدرة على الفعل ليس مسألة شخصية بل كارثة قومية تتنزل مباشرة على رؤوس الشعوب..!
وقد كان الغضب هو سيد المواقف الأخيرة لبعض رموز الإسلاميين الرافضين المبدأ التفاوض من أساسه، أو المعترضين على توقيت التفاوض، بينما بينما افترعت قيادة مجلس السيادة طريقاً ثالثاً يعول في نهوضه بموقف الدولة على القبول المشروط بمبدأ التفاوض، والرفض الاستراتيجي لموقف الأعداء والتجاوز التكتيكي لموقف بعض الحلفاء..!
وهكذا أعلنت الحواضن السياسية للطرفين على جانبي هذه الحرب عن بعض الأسباب الوجيهة لتصاعد وتيرة الإيجو السياسي عبر بعض التصريحات، بينما بقيت الأسباب الحقيقية لتلك المواقف قابعةً في صناديق الممنوع من الصرف، بانتظار مقتضياتٍ ما، قد تتيج تجاوز بعض الهنَّات، أو ضروراتٍ ما، قد تبيح إتيان بعض المحظورات ..!
وكلا الموقفين السياسيين – على الجانبين – لا يمثلان هذا الشعب، ولا يعبران عن حقيقة موقفه من استمرار هذه الحرب أو من إنهاء معاناته جراء كوارثها بالتفاوض الذي يعقبه السلام..!
بل يمثلان طموحات سياسية ومطامع سلطوية لكيانات اعتادت واستمرأت وشاركت وتواطأت على أن تكون دماء هذا الشعب هي القربان الواجب تقديمه لتحقيق التغيير المنشود الذي يختصر طريقها نحو السلطة..!
يقيني أن كل شرِّ حاق بهذا البلد الطيب أهله إلى زوال، وأن هذا الشعب الذي تتنزل عليه مآلات غضب الحلفاء ومعارك السياسيين لا تعنيه وجاهة الأسباب من حقيقتها، بقدر ما تعنيه نتائجها التي تتنزل على أحداث وفصول إلياذة عذاباته في هذه الحرب..!
الخبز والأمن والكرامة حقوق إنسانية جاءت قبل الديمقراطية والمدنية في هرم “ماسلو”. وهذا هو ما يتجاهله السياسيون المنشغلون بالتناحر على السلطة، بينما يدركه ويطلبه هذا الشعب الذي أوصلته فظائع وكوارث ومظالم وانتهاكات هذه الحرب إلى منزلة الرمق..!