“سلامٌ على أولئك الذين رأوا جدار روحك يكاد أن ينقَاضَ فأقاموه ولم يفكروا أن يتخذوا عليه أجراً” .. جلال الدين الرومي ..!
كم مرةً وقفت عاجزاً أمام امتحان الانتظار، كم مرةً عجزت عن أن تتجمل بالصبر، كم مرةً أثقل كاهلك الهم واستبد بك الحزن فقط لأنك قد أردت شيئاً ما بقوة وبذلت الغالي والنفيس للوصول إليه..!
على الجانب الآخر من وجه الحقيقة كم مرةً تخليت عن رغبتك الجامحة في تحقيق أمرٍ ما فتحقق، وكم مرةً أرخيت قيود تعلقك العاطفي بشخصٍ ما فعاد إليك طائعاً مختاراً..!
لماذا تفشل إذا تعلقت ولماذا تنجح إذا تخليت؟. لأن الأمر ببساطة مرهون بنجاحك في التعامل مع مبدأ فائض الاحتمال..!
لو أردت شيئاً ما بشدة أو أحببت شخصاً ما بشدة فأطلق سراحه، لا تتعلق به، تخلى عنه تماماً دون أي مشاعر أو أحكام سلبية، و ستفاجأ بالنتيجة..!
عندما تريد شيئاً ما بشدة لدرجة أن تكون مستعداً للتضحية بسلامك النفسي وصفائك الذهني وراحك بالك فإن موقفك هذا يخلق فائض احتمال ويسبب خللاً في توازن طاقتك وطاقة الكون من حولك، ثم ينقلك إلى مسار أحداث محبطة تعيق وصولك، وكأن الكون كله يعمل على تأديبك..!
إنه الوجه المادي لمعنى التخلي والتجلي عند الصوفية “أن يضعك الله في امتحان روحاني لتهذيب نفسك والارتقاء بها إلى مراقي التخلي عن التعلق بغير حب الله”. حيث تمر تزكية النفس بثلاث خطوات هي “التخلي والتحلي والتجلي”..!
وحيث التخلي والتحلي أمران من فعل العبد، هما عبارة عن مجاهدات ورياضات نفسية باطنية وتعب ومنازعة وترويض وتهذيب من الإنسان لنفسه ثم تطعيمها بالمعاني العلوية الشريفة الراقية، والمواظبة على إروائها بالذكر والشكر وصدق التوجه والسير إلى الله ..!
أما التجلي فهو عند الصوفية نتيجة، وهو من فعل الله تعالى، حينما يرى من عبده صدق المجاهدة، فيقابل ذلك بفتح أبواب التوفيق ومد أسباب المعونة، واصطفاء ذلك الباطن لمناجاته وشرف معرفته. فالتجلي بذلك هو شأن إلهي وتصرف رباني يفعله الله بتلك النفوس التي قامت بالتخلي والتحلي ..!
خلاصة القول إن كلا الوجهين الفيزيائي “الطاقي” والصوفي “الروحاني” يتفقان على نبذ كافة أشكال “العَوَز” والمبالغة في التعلق بالأشياء والتعويل على الأشخاص، فكل ما نحتاجه كامنٌ في دواخلنا..!
هذه الحرب لم تترك لنا ما نعول عليه سوى الدواخل، عن هذا يقول جلال الدين الرومي “إن تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح، وإن تكن تُفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز، وإذا أدركت ذلك ستفهم أن كل ما تبحث عنه هو أنت” ..