.”لن تُبْصرْنا بمآقٍ غير مآقينا .. لن تَعْرِفْنا ما لم نجذبك فَتَعْرِفَنا وتكاشفنَا .. أدنى ما فينا قد يعلُونا يا ياقوتْ .. فكن الأدنى تكن الأعلى فينا” .. الفيتوري ..!
في عهد الملك فيصل رحمه الله اكتشفت الحكومة السعودية وجود قرية اسمها “الحبلة” بين جبال منطقة عسير كانت تسكنها نحو ستين أسرة وتعيش في عزلة كاملة..!
كان سكان تلك القرية يعتمدون على الحبال في تسلق الجبال للوصول إلى العالم الخارجي. فتم نقلهم من خلال عملية إخلاء جوي، وتمت إعادة توطينهم ودمجهم في المجتمع، ثم تحولت المنطقة إلى منتجع سياحي يسر الناظرين..!
الصعوبات التي واجهت سكان تلك القرية قبل أن يتمكنوا من الاندماج في مجتمع المنطقة كانت كبيرة، وكذلك الحال مع بقية سكانها الذين أدهشهم وجود قرية كاملة تعيش خارج المنظومة الاجتماعية..!
عندما زرتُ العاصمة الماليزية “كوالالامبور” لأول مرة قبل نحو عقدين من الزمان لاحظتُ أن نسيج مواطنيها المريح والهاديء – الذي يتكون من شعب الملايو والصينيين والهنود – لا يعطي الزوار انطباعاً بوجود أي تفرقة أو درجات للمواطنة على أساس العرق..!
ولاحظتُ أيضاً أن سائق السيارة – التي كانت تقلنا في جولة سياحية – كان يقوم بإيقافها خلف بعض الحواجز الحديدية ثم يلقي بعملة معدنية من فئة “الرينغيت” في فتحة معدة خصيصاً، قبل أن يرتفع الحاجز الحديدي فيمضي السائق في طريقه، بعد أن يكون قد ساهم بعملة معدنية واحدة في توسعة رقعة شبكات الطرق القوية التي تربط مختلف المناطق في بلاده دون أن يضيره ذلك في شيء..!
لا شك إذن في وجود علاقة طردية بين قوة شبكات الطرق – التي تضمن وتسهل إمكانية الوصول إلى الآخر – وسعة التعايش الشعبي تحت مظلة وطنية واحدة. ولاشك أيضاً في أهمية الدور المفقود لشبكات الطرق – في السودان – في مكافحة العنصرية والقبلية وفي تبديد أوهام الأفضلية وفي دحض خرافات النقاء العرقي..!
الدولة في بلادنا نشأت قبل نشوء الأمة فظللنا شعوباً وقبائل لا تعرف بعضها لكنها تعيش تحت مظلة الجنسية الواحدة دون أن تنجح في تحقيق التعايش المطلوب لكي تصبح أمة واحدة. نحن ما نزال مجموعات تجهل بعضها، والناس دوماً أعداء ما جهلوا..!
كل هذه الحروب وكل هذا الشتات مرده إلى تلك المسافات الفاصلة التي عمقت عزلتنا وأججت جهالتنا التي أشعلها جهلنا بأبسط الحقائق عن بعضنا، وما هذه الحرب بكل شرورها إلا نتيجة راجحة لتأثير ضعف التنمية في معظم الهوامش واقتصارها فقط على بعض المتون..!
التغيير المطلوب في سودان ما بعد الحرب هو أن ننشيء شبكات الطرق قبل أن نشرع في تسجيل الأحزاب، أن نفتح الطريق إلى الآخر حتى يتحقق التغيير بالتدريج..!
عندما تترامى تلك الشرائط الإسفلتية السوداء بين مضاربنا المترامية يكفينا أن نراهن على تعاقب الأيام، أن ننتظر فقط على طريقة “هربرت نورمان شوارزسكوف” الذي كان قائد قوات التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية..!
عندما كان “شوارزسكوف” وزيراً للدفاع ذهب لتفقد وزارة الدفاع البحرية وهناك وقف على متن بارجة ضخمة، وكان يسمع قائدها وهو يكرر الأوامر لقائد الدفة – طوال الوقت – قائلاً “ربع درجة لليمين”..!
بعد مرور ست ساعات أصبحت البارجة في الاتجاه المعاكس دون أن يشعر الجميع بأي حركة لأن قائدها كان يتعمد أن تكون الحركة بمقدار ربع درجة فقط حتى يتحقق التغيير المطلوب في الاتجاه رويداً رويداً دون أن يتأثر السطح بأي اهتزاز..!
الدكتور” سليمان العلي” – مدرب برامج إطلاق القدرات وتطوير الذات – يقول إن حكاية البارجة تلك تصلح لأن تكون قاعدة عامة من قواعد الحياة “أن نسعى إلى تحقيق التغيير المطلوب بمقدار ربع درجة كل يوم”..!
وكذلك نحن في السودان نحتاج فقط أن نصل لكي نتواصل، وأن نتواصل لكي نعرف، وأن نعرف لكي نقبل، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن اغترف اعترف!.