هناك فرق.. منى أبوزيد تكتب: أرض الواقع!
هناك فرق.. منى أبوزيد تكتب: أرض الواقع! “قبل اندلاع هذه الحرب كنا نشارك العالم في زيادة أسباب الاحتباس الحراري ونساهم في تآكل طبقة الأوزون من خلال سودنة المظاهر” .. الكاتبة ..!
منذ عقود مضت، في أرض الواقع وحتى اندلاع هذه الحرب كان هناك فرق، إنه جاثوم يطبق على صدر الطبقة المتوسطة في السودان اسمه المظهر الاجتماعي، وهو تصور لما يجب أن تكون عليه الصورة الذهنية للمرء في دائرته الاجتماعية ..!
الاقتصادية والتمييزات الاجتماعية التي تعاقبت على بلادنا قبل اندلاع الحرب لم تؤثر على الأثرياء والموسرين ولا على الفقراء والمساكين بذات القدر الذي أثرت به على المستورين من أبناء الطبقة المتوسطة الذين لا يملكون لا مبالاة الأثرياء المثيرة للدهشة ولا واقعية الفقراء الباعثة على التقدير ..!
قبل اندلاع هذه الحرب كانت الحرب الاجتماعية، و الأثرياء على الجانب الآخر من الحائط الطبقي يحفلون بالمظاهر وينفقون عليها بسخاء، وكان الفقراء خلف حدود ذات الحائط الطبقي يعملون أجراء في أوقات فراغهم، وتبيع زوجاتهم الحلوى على أبواب المدراس، ويعمل أبناؤهم في أجازاتهم المدرسية، وترضى بناتهم بحفلات زواج متواضعة في حيشان البيوت..!
بينما اعتادت بنات الطبقة المتوسطة على الخروج إلى المجتمع بمظهر يفوق مقدرات أسرهم المادية، من المدارس الخاصة إلى الجامعات الخاصة التي تجهز على مدخرات الآباء، قبل أن تزف الواحدة منهن إلى عريسها وهي تمشي على فواتير الديون..!
وبينما كانت نسيبات الطبقة المتوسطة يحرصن على مظاهر البذخ في “فطور العريس” ويجتهدن في إضفاء مظاهر الترف على عشاء حفل الزفاف فيرثن الهموم والديون، كان أبناؤهن الخريجون العاطلون لا يقبلون بأي فرص للعمل إلا بعد أن تنطبق عليها شروط طبقتهم الاجتماعية..!
صحيح أنهم كانوا مواطنين شرفاء يترفعون عن الفساد لكنهم أيضاً كانوا يحصدون خيبات ضيق الأفق والخوف من استثمار المدخرات التي كانوا ينفقون أضعافها على المظاهر والكماليات..!
وصحيح أنهم كانوا مواطنين طموحين لم يخشوا إنفاق معظم الدخل على تعليم الأبناء، كما كان يفعل معظم الفقراء، لكنهم أيضاً كانوا يتشبهون بالأغنياء في الإنفاق على المتطلبات الباهظة التي تفرضها مظاهر طبقتهم الاجتماعية، من من امتلاك الأجهزة الذكية، إلى شراء آخر موديلات السيارات بالأقساط، إلى السياحة الرمضانية والموسمية في دول الجوار ..!
وبينما كان الأثرياء ينامون آمنين مطمئنين إلى أرصدتهم في البنوك، وبينما كان الفقراء ينامون آمنين مطمئنين لخلو أطرافهم من أي ديون، كان أهل الطبقة المتوسطة يتقلبون على جمر الظنون ..!
تقلق الأقساط منام بعضهم وتثقل الديون كاهل البعض الآخر، ثم يعصف بأمانهم غلاء الأسعار الذي لم يقنعهم تفاقمه المستمر بالتنازل عن بعض متطلبات مظهرهم الاجتماعي، ثم يقض مضاجعهم ارتفاع سعر الدولار لكنم لا يسارعون إلى تخفيض النفقات، ولا يتخلون عن اقتناء الكماليات ..!
كان يحدث هذا لأنهم – ببساطة – لا ولم يستطيعوا أن يخرجوا على أبناء طبقتهم الأدعياء بمظهر يقل ادعاءاً عن جملة ادعاءاتهم، بل كانوا ملتزمين بتلك الصفقة الأبدية مع ذلك “النمط المعيش” إلى أن اندلعت هذه الحرب..!
بعد أن تعثر معظم الأغنياء كثيراً خلال السنة الماضية – التي أعقبت اندلاع الحرب – أعادوا صياغة حضورهم الطبقي على نحوٍ نسبي في مناطق النزوح واللجوء، وبقي معظم الفقراء على حالهم، لا يملكون ترف اللجوء أو النزوح..!
بينما كان أهل الطبقة المتوسطة – الذين نزحوا داخل الوطن أو لجأوا إلى دول الجوار – أكثر المتأرجحين على حواف طبقتهم الآيلة للسقوط بفعل أزمات هذه الحرب التي لم تترك لهم خياراً آخر غير الواقعية الاقتصادية.!
فقَبِلَ الآباء بمهن شريفة كانوا ستنكفون عنها، وقَبِلَ الشباب بأعمال محترمة ظلوا يستكبرون عليها، وقَبِلَتْ الفتيات بزيجات مُختصرة قليلة الكلفة ..!
وهكذا أدرك معظم أهل الطبقة التي كانت تسمى متوسطة – بعد مرور أكثر من عام على اندلاع هذه الحرب – أن الاتصال بمعظم الأحوال شيء وأن الوصول شيء إليها آخر، وتمكنوا من سداد أثمان تذاكر العودة إلى أرض الواقع!.