مقالات

هناك فرق.. منى أبوزيد تكتب: في البقاء والفناء!

الخرطوم | زحل نيوز

“كل بقاء يكون بعده فناء لا يُعوَّل عليه، وكل فناء لا يعطي بقاءً لا يُعوَّل عليه”..

محي الدين بن عربي..!

في مطلع الألفينات كنتُ زوجة طبيب القرية بإحدى مناطق شمال السعودية النائية التي تبعد عن أقرب المدن الكبيرة مسافةً تُجوِّز قصر الصلاة. ومن تلك القرية الهاجعة دخلتُ عالم الكتابة للصحف عبر شبكة الإنترنت، وعندما زرتُ السودان في أجازةٍ قصيرة بعد نحو ثلاث سنوات كنتُ قد احترفتُ الكتابة وعُرفتُ ككاتبة..!

حكايات الأطباء مع تَعنُّتْ المرضى واستحفافهم بطرق العلاج الحديثة في تلك الأصقاع كثيرة ومتنوعة، لكن أكثر الحكايات بؤساً وإيلاماً كانت جريمة شروع في القتل، كاملة الفصول مكتملة الأركان، ضحيتها شاب سوداني كان يعمل راعياً لدى أسرة من البدو في أطراف تلك المنطقة..!

طالب الراعي الشاب كفيله البدوي بأجره الذي تأخر لشهور، وبعد تفاقم النقاش – الذي كان مسرحه خيمة ليس فيها سواهما – أطلق الكفيل عدة طلقات من مسدسه على الراعي الشاب وقام بجرِّه إلى جانب الخيمة تمهيداً لدفنه..!

لكن حضور بعض الضيوف الذين كانت سيارتهم تقترب من الخيمة أربك الرجل فألقى عباءته على الجسد المُسجى وهرول للترحيب بضيوفه وانشغل بتقديم الواجب..!

في تلك اللحظات زحف الشاب المغدور الذي كان ما يزال على قيد الحياة حتى وصل إلي أطراف طريق الأسفلت الذي كان يمتد بين كثبان الرمال، وشاءت إرادة الله أن يلمحه عامل أفغاني كان يقود عربة لنقل البضائع..!

قام العامل بنقل الراعي إلي أقرب مركز صحي بأقرب قرية، وهناك تجلى لطف الله في مصادفةٍ أخرى مفادها أن الطبيب السوداني الذي قام بإنقاذ حياة الراعي كان يستعد للسفر إلى بريطانيا للجلوس للقسم الثاني من امتحانات الكلية الملكية للجراحين، فساهم مجال تخصصه في القيام باللازم قبل مرافقة المغدور إلى مستشفى المدينة..!

على مائدة غداءٍ متأخر أخبر طبيب القرية زوجته بتفاصيل تلك الحكاية التي انتهت بإجراء جراحة عاجلة للمريض على يد جراح نيجيري بارع، وأستقرت حالته الصحية بفضل الله..!

بعد تماثُل الراعي الشاب للشفاء وإلقاء القبض على كفيله البدوي وتطور الأحداث، ظل مجتمع الأطباء السودانيين في تلك القرى يتابع تفاصيل القضية بانتظار القصاص العادل..!

لكن الراعي الشاب فاجأ الجميع بقرار العفو مقابل ثروة من المال عرضها عليه الرجل. فهل انتهينا؟. كلا لمَ ننتهِ لأن الغرض من تضمين هذا المقال بهذه الحكاية هو الوقوف على تباين وجهات نظر البشر الخطائين بشأن مسألة العدالة..!

اختلف موقف الضحية في تلك القضية ورأيه ورؤيته بشأن كيفية تطبيق العدالة – بالموافقة على التعويض – عن موقف مواطنيه الداعمين لقضيته والمطالبين بتطبيق ذات العدالة عن طريق القصاص. فما الذي حدث..!

المحكمة اعتمدت موقف الراعي لأنه صاحب الشأن، فاستلم ذلك المال وعاد إلى السودان. أما مواطنوه الذين بقوا هناك فقد لاموه على التفريط في القصاص وشجبوا وأدانوا استخدامه لحقه في العفو مقابل التعويض..!

بعد مرور سنوات على تلك الحكاية تفرقت السبل بتلك الكتلة الصلبة التي كانت تطالب بالقصاص، فمنهم من طور اغترابه بالسفر إلى دول العالم الأول، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ومنهم من اختارا أن يتفرقا وأغنى الله كل منهما من سعته..!

بينما استثمر الراعي الشاب تلك الثروة في مشاريع عادت عليه وعلى أسرته الممتدة بخيرٍ كثير. فهل كان مخطئاً أو كانوا مخطئين؟. أعتقد أن الجميع كانوا على صواب في تمسكهم بوجوب تحقيق العدالة، أما اختيار القصاص أو التعويض فهو شأن الراعي وحده..!

وكذلك الحال في كيفية إنهاء هذه الحرب، الشعب السوداني هو الضحية وهو الراعي الرسمي والوحيد الذي يحق له أن يقرر أن تنتهي على طاولات التفاوض أو تنتهي في ساحات المعارك!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى