في انتظار دورها لمقابلة الطبيب النفسي والعقلي ظلت (جميلة) تمسك قويا بابنتها ذات ال(23) ربيعا الطالبة باحدى كليات الطب بالخرطوم وهي تحاول ان تفلت من قبضة والدتها ويظهر عليها الخوف والذعر .تهمهم بكلمات غير مفهومة احيانا تتكلم بصوت عالي وتردد الدانات الطائرات والقذائف وتطلق صرخة عالية .تخلع كل من هم حولها .
(جميلة) قالت ل(زحل نيوز) ابنتي اصيبت بهذه الحالة منذ اليوم الاول للحرب وفي البداية كانت تبكي فقط .ثم اصبحت صامتة في خوف ودون نوم .ثم تحولت الحالة الى كلام وصراخ طوال الوقت.
نزحت بها الى عطبرة ونصحوني الاهل في عطبرة بالذهاب بها الى احد شيوخ المنطقة وقد فعلت .وبعد عدد من جلسات الرقية الشرعية تحسنت الحالة قليلا .ثم جئت بها الى القاهرة فساءت حالتها والان عرضتها على طبيب نفسي مواصلين معه في العلاج ولكن مازالت حالتها تقلقني للحد البعيد.
اما الاستاذ(خ) فقد كانت حالة ابنه الذي هو في نهاية العشرينات اكثر سوءا وخطورة وهو عدواني وشرس لدرجة انه تم تكبيله طول الوقت وأوضح(خ) ان ابنه شاهد اصدقاءه الاثنين يقتلون امام عينيه ونجى هو ولكن في نفسه علة نفسية كبيرة جدا .
دوما يحاول ان يعتدي على من حوله بشتى الطرق .وقال:لم يكن امامنا سوى ان نقوم بتقييد رجليه طوال اليوم حتى عند ذهابنا به الى الطبيب النفسي لان اخوته اصبحوا يخافون ان يعتدي عليهم.
وانا ووالدته اكثر خوفا لاننا نخشى ان يقتل فيهم احد خاصة وان القصص كثيرة جدا حول اشخاص اعتدوا على ذويهم بالضرب المبرح .وهناك من قتل امه وآخر قتل عمته .وهناك من قتل شقيقه .كلها حكاوي واقعية تجعلنا حريصين ان يكون مكبلا طول اليوم مع مراقبته اللصيقة.
(ذكريات مؤلمة):
المواطنون في الخرطوم رأوا ما رأوا من الألم ما يفوق طاقاتهم، فشعور أن تفقد منزلك الذي أمضيت حياتك به، وأن ترى جسد والدك او امك او اختك او صديق طفولتك قد قُطّع إلى أشلاء في منتصف الطريق أو أن تسمع صوت نحيب أخاك في وسط الاعداء، ولم يكن بإمكانك فعلُ شيءٍ لإنقاذه هو أمرٌ سيبقى عالقٌ في ذاكرتك لا محالة وينهشك من داخلك دون أدنى شك.
كل المشاهد الدموية التي رآها الشخص لن تفارق مخيلته الئ ان يتوفاه الله .خصوصا وان هذه الصراعات خطفت منهم أحبابهم ،و دمرت أي ذكرى لهم وتركتهم يلهثون وراء خيالهم. خصوصا ان النفس البشرية بطبيعتها هشة تتهاوى امام كل ما يخالف طبيعتها التي خلقت عليها.
تلك النفس التي تبحث عن الأمان، الإستقرار و الراحة، البُعد عن العنف وأي شيء يهدد استقرارها، (اماني) ظلت تحت القصف لمدة خمسة اشهر وعندما اشتد الضرب ورائحة الموت تملأ المكان غادرت منزلها ولكنها غادرت وهي تحمل في ذاكرتها الالم والمعاناة والهلع ومشاهد الناس يتساقطون امام عينيها بالرصاص او الدانات .
وقالت ل(زحل نيوز) لا استطيع وصف ما بداخلي من الام لن يداويها الزمن . واضافت احيانا اتمنى ان يتوفاني الله من شدة ما رأيت من موت وخوف وهلع لا استطيع نسيان ذلك بالمرة وسيبقى ذكرى مؤلمة وغير مريحة اعتقد احسن منها الموت. ذكريات مرة كثيرون ماتوا خوفا وآخرين فقدوا عقولهم .
وقالت :كنا نقرا القرآن طوال ساعات اليوم ونقرأ الاذكار ونسبح في كل لحظاتنا خوفا من ان يحدث لنا شيئا وخوفا من ان نفقد عقولنا بسبب ما نرى ونسمع وقالت: طفلة جيراني فقدت عقلها اول ما رات خالتها تموت امامها بقذيفة فظلت تصرخ حتى ماتت.
فهل ذلك ممكن ان ننساه بالتأكيد لا ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ان نجانا من الموت ومن الجنون .وتابعت اماني حديثها الذين فقدوا عقولهم وانا اعرفهم معرفة شخصية حوالي (17) من طفل وشاب وامرأة ورجل.
(نهاية في غمضة عين):
تقول امجاد الصادق استاذة علم النفس في عدد من الجامعات السودانية الحرب تدمر النفس والعقل اولا .فالانسان يظل يطور في حياته وعمله ويؤسس منزله ويشتري سيارات ويسعى لامتلاك مقتنيات ثمينة لمستقبل اينائه فيأتي يوم يفقد فيه كل شيء في غمضة عين ومن دون أي سابق انذار.
تأتي الحرب لتأكل الأخضر واليابس. ويفقد الامان والراحة والاستقرار ويتعرض للعنف والترهيب واي شي يهدد استقراره لذلك نجد اثار الحرب النفسية والعقلية كبيرة جدا ولو تمت متابعة الحالات النفسية الاطفال والنساء وبعض الشباب النتيجة بتكون مفجعة بكل تاكيد.
هناك عدد كبير يعانون من القلق الدائم والشعور بعدم الأمان والخوف الرهيب من رؤية الدم حتى لو كان كمية قليلة منه. والمخيف أن الأمراض النفسية لا تميّز بين صغير أو كبير، تصيب الجميع دون أي تمييز، وابانت من أكثر الحالات التي تصيب الناجين من براثِن الموت: هلوسات سمعية وبصرية، اضطراب النوم وخفقان القلب الشديد، الشعور الدائم بالخوف واهتزاز في الجسد، القهر وعدم قلة الثقة بالنفس، فقدان الشهية بسبب الخوف وبسبب تذكّر المشاهد المفجعة التي حُفِرَت في أعينهم قبل ذاكرتهم.
كل هذه الحالات تؤدي بالمصاب إلى الاكتئاب أو الإصابة بمرض الانفصام أو مرض الشيزوفرينيا، وقد تؤدي بالبعض إلى حملهم للسلاح أو تعاطيهم للمخدرات . وارتكاب الجرائم حتى على مستوى اسرهم. حيث يفقد المريض النفسى رغبته فى الحياة وفى نظافته الشخصية ومظهره، لذلك لا بد أن ندعمه ونتحدث معه بهدوء وتحفيزه لاستعادة حياته الطبيعية والاهتمام بالنظافة الشخصية.
وعدم التحدث معه عن أيام الحرب والدمار، لكن استبدل ذلك بالحديث معه عن الإيجابيات والأشياء التى يحبها. ومساعدة المريض على ممارسة التمارين الرياضية يوميا، فهى تعزز الحالة النفسية وتساهم فى الخروج من حالة الاكتئاب والتوتر.
كما انه لابد من إقناع المريض على زيارة الطبيب النفسى، ويجب أن تكون بجانبه دائما وتشجعه على ذلك.مايؤكد ان للحرب تأثير كارثي على صحة الأمم ورفاهيتها، إذ تدمر المجتمعات والأسر وغالبا ما تعطل تنمية النسيج الاجتماعي والاقتصادي. وتشمل آثار الحرب الأضرار الجسدية والنفسية طويلة المدى على الأطفال والبالغين،
(تقارير عالمية):
قالت منظمة الصحة العالمية إن واحدا من كل خمسة أشخاص في مناطق الحرب يعانون من الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات ما بعد الصدمة أو الاضطراب ثنائي القطبية أو انفصام في الشخصية، فيما يعاني كثير منهم من أشكال حادة من هذه الأمراض العقلية. وقالت المنظمة التابعة للأمم المتحدة إن هذه النتائج تسلط الضوء على التأثير بعيد المدى للأزمات الناجمة عن الحرب في بلدان مثل أفغانستان والعراق و السودان وسوريا واليمن.
وإن الأرقام أعلى بكثير منها في وقت السلم حين يعاني واحد من كل 14 شخصا تقريبا من شكل من أشكال المرض العقلي. وقال فريق البحث “نظرا للعدد الكبير لمن هم بحاجة للمساعدة وللضرورة الإنسانية التي تحتم تقليل المعاناة، هناك حاجة ملحة لتدخلات قابلة للتطوير في مجال الصحة العقلية من أجل التعامل مع هذا العبء”
وايضا ذكرت مجلة الصحة العقلية والنفسية الأميركية أن 22 في المئة من الأشخاص الذين يعيشون في مناطق الصراعات المسلحة يعانون من الاكتئاب والقلق و”اضطراب ما بعد الصدمة” و”انفصام الشخصية”، وأن نحو 9 في المئة من سكان البلدان التي تشهد صراعات عنيفة يعانون من اضطرابات صحية عقلية ونفسية شديدة.
وخلصت دراسة شارك فيها باحثون من جامعات “كوينزلاند” الأسترالية و”واشنطن” و”هارفارد” الأميركيتين بتمويل من منظمة الصحة العالمية، إلى أن الاكتئاب والقلق يزيدان مع تقدم العمر في البلدان التي تشهد صراعات، وأن هذه الأرقام أعلى بكثير منها في وقت السلم، إذ يعاني واحد من كل 14 شخصا تقريبا من أحد أشكال المرض العقلي أي ما يصل الى نسبة 7.14 في المئة.