مقالات

قطر وإستراتيجية التوازن العكسي !!

 إستراتيجيات .. د. عصام بطران

 الخرطوم _ زحل نيوز

السياسة الخارجية القطرية مبنية على استراتيجية “التوازن العكسي” في العلاقات الدولية التي تتميز بعدم ضبط معياري يحدد اتجاهاتها فهي نوع من مناهج السياسة الخارجية الذي يلتئم فيه التعامل مع كافة الاحتمالات بقدر عالي من الاحترافية الدبلوماسية.

بعيدا عن المساس بالثوابت الوطنية والاقليمية والدولية .. وسياسة “التوازن العكسي” مسارها الاستراتيجي يعمل في اتجاهات متعددة بحيث لايؤثر اي اتجاه على الاخر فمثلا لدى قطر علاقات متميزة مع الولايات المتحدة الامريكية ..

قطر تستضيف قاعدتين عسكريتين أمريكيتين هما قاعدة “العديد” الجوية التي تقع جنوب غرب العاصمة الدوحة وتعد اكبر قاعدة عسكرية امريكية في الشرق الأوسط وكذلك قاعدة “السيلية” التي تبعد عن الدوحة بنحو 35 كم ويصل عدد القوات الامريكية الموجود في القاعدتين الى نحو 11 الف جندي امريكي وهو عدد اكبر بكثير من عدد قوات الجيش القطري وقد وصفتهما قناة “الجزيرة” القطرية بانهما – اي القاعدتين – اكبر مخزن للاسلحة الامريكية فى الشرق الاوسط ..

بينما في الاتجاه المعاكس تمتلك قطر علاقة “فصلية” جيدة مع ايران فاهم ما يربط البلدين اقتصاديا هو حقل الغاز المشترك بينهما في مياه الخليج وهذا بات عاملا اضافيا ليجعل قطر لا تبتعد عن طهران حفاظا على مصالحها في الحقل الذي تبلغ مساحته 9700 كلم وتمتلك منه قطر 6000 كلم بينما تمتلك ايران 3700 كلم.

وتعتبر قطر ايران جزءاً من الحل الامني في المنطقة مع رفضها اعتبار طهران جزءاً من المشكلة نظرا للشكوك التي تنتابها ازاء كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وهذا يفسر اصرار الدوحة على مواصلة علاقتها مع ايران ولكنها تعاير كفة العلاقة بينها وبين دول الخليج بميزان الذهب لحساسية وضعها بينهم في الاقليم .

وفي ذلك شدد الشيخ “تميم” على ان دولة قطر نجحت في بناء علاقات قوية مع اميركا وايران في وقت واحد نظرا لما تمثله ايران من ثقل اقليمي واسلامي لا يمكن تجاهله وليس من الحكمة التصعيد معها خاصة انها قوة كبرى تضمن الاستقرار في المنطقة عند التعاون معها وهو ما تحرص عليه قطر من أجل استقرار الدول المجاورة ..

نموذج اخر لعلاقة قطر مع اقطاب دولية متنافرة ضمن استراتيجيتها “التوازن العكسي” هي علاقتها مع تنظيمات الاخوان المسلمين وحركة طالبان التي افتتحت مكتبا لها في قطر وحركة حماس اضافة الى الاخوان المسلمين الذين فروا من مصر في الستينات وسوريا في الثمانينات وبينهم من اقامو في قطر كالشيخ “القرضاوي” وكذلك رموز الحركة الاسلامية في السودان ومنهم الدكتور حسن الترابي ،،

وفتحوا القطريين ابواب العلاقة مع سائر فروع التنظيم حول العالم واكد الشيخ “تميم” امير قطر انه لا يحق لاحد ان يتهم قطر بالارهاب من وجهة نظره لانه صنف الاخوان المسلمين جماعة ارهابية او رفض دور المقاومة عند حماس وحزب الله وطالب مصر ودولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين بعدم التدخل في مسارات علاقاتها الخارجية ..

وفي الجانب الاخر تمثل علاقة قطر باسرائيل طرف النقيض في علاقتها مع الاخوان المسلمين وايران الذين لايقبلون اي علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية فقطر تربطها اتصالات دبلوماسية وتجارية معلنة مع اسرائيل حيث تصدر اليها الغاز وعندما منحت قطر شرف استضافة كاس العالم لكرة القدم 2022م اعلنوا مبدئيا انذاك عن السماح لاسرائيل بالمشاركة في البطولة اذا حققت متطلبات التأهل لكاس العالم ..

ان ما يخدم قطر في انتهاج استراتيجية “التوازن العكسي” ونجاحها في خلق علاقات متميزة مع اقطاب متنافرة في ان واحد هو ارتكازها على بنية اقتصادية ضخمة حيث تمتلك قطر ثلث الاحتياطي العالمي للنفط بجانب انها تصدرت قائمة الدول المصدرة للغاز عالميا متجاوزة اندونيسيا في العام 2010م حيث وصل انتاجها الى 77 مليون طن سنويا بنسبة 30% من صادرات الغاز المسال في العالم.

بينما يقابل هذه البنية الاقتصادية الضخمة عدد قليل من السكان ادى الى ارتفاع في مستوى الدخل للفرد والذي قلل بدوره من اي تفاعلات واضطرابات داخلية اعطت الفاعلين في السياسة الخارجية القطرية مساحة للمناورة السياسية سواء قبل الربيع العربي او في اثنائه حيث بلغ نصيب المواطن القطري من اجمالي الناتج المحلي خلال عام 2011م حوالي 440 الف دولار.

الامر الذي ادى الى عدم وجود رغبة للمعارضة السياسية الداخلية في قطر مما اوجد مساحة لنجاح استراتيجية “التوازن العكسي” .. وثاني هذه المرتكزات هو دور الوساطة الدولية والاقليمية الذي قامت به قطر وباسلوب محايد في معالجة النزاعات الشائكة مع بناء علاقات متزنة مع جميع الاطراف المتنازعة جعلها مصدر ثقة بحيث لاتمثل انحيازا سياسيا لطرف دون الاخر .

وتعددت نماذج الوساطات القطرية لتشمل اليمن 2010م ولبنان 2008م ودارفور منذ 2008م كما عملت الدوحة كذلك على حل نزاعات بين السودان وتشاد 2009م وبين جيبوتي واريتريا 2010م اضافة الى وساطاتها المتكررة في المفاوضات مع حركة حماس وسعت في ملف المصالحة او انهاء النزاعات المتكررة مع الكيان الصهيوني مستغلة في ذلك مواردها المالية الواسعة التي استغلتها في حل النزاعات العلاقات الشخصية لحكامها وعلى رأسهم الامير الاب الشيخ حمد آل ثاني ..

وتمثل الامبراطورية الاعلامية المرتكز الثالث لانتهاج قطر لاستراتيجية “التوازن العكسي” وتعتبر قناة الجزيرة في قطر اكبر داعم لسياسة قطر الخارجية فمنذ تاسيسها في عام 1996م اخذت تتوسع في جميع انحاء المنطقة بل صارت تبث للولايات المتحدة الامريكية نفسها كما اشترت قطر ايضا مجموعة قنوات فرنسا وبرز دور قناة الجزيرة كاحد وسائل النفوذ القطري مع انطلاق ثورات الربيع العربي ..

قطر اول من استخدم استراتيجية “التوازن العكسي” في سياستها الخارجية بنجاح دون الكثير من دول العالم التي جربت هذه الاستراتيجية وكتب لها الفشل في ممارستها لعدم وجود مرتكزات قوية ترتكز عليها كما الحال في قطر واستراتيجية “التوازن العكسي” هي استراتيجية مبنية على بناء علاقات خارجية متناقضة بين اطراف متنافرة في ان واحد

وذلك لتحقيق اهداف استراتيجية متشابكة ومعقدة فمثال لذلك علاقة قطر مع امريكا حيث تمثل قواعدها العسكرية حماية لها من التكتلات الدولية الطامعة في ثرواتها الاقتصادية وعلاقتها مع ايران تمثل لها حماية من التكتلات الاقليمية الكبيرة من حولها في منطقة الخليج وعلاقتها مع اسرائيل تؤمن لها موقفها امام القوى الغربية وتسمح بتمرير وارداتها وصادراتها بافضل الاسعار العالمية.

وعلاقتها مع الاخوان المسلمين والحركات الاسلامية تمثل خط دفاع لها من النفوذ المصري وتغوله وانفراده باصول السيادة الاقليمية ويجعلها ايضا في حماية من رغباتهم بتغيير نظام الحكم فيها .. وهكذا تغذي استراتيجية “التوازن العكسي” الاقطاب المتنافرة في شكل دائري يمثل فيه كل قطب ترس يحرك الاخر ..

اشفق كثير من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين على قطر نتيجة الحملة التي وجهت ضدها مؤخرا واتهامها بدعم الارهاب والارهابيين بالمنطقة مما خلق لها عداء مع السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة والبحرين ومصر ..

ولكن بكل تاكيد الوزنة الدولية تميل في محور ارتكازها لصالح قطر حيث ان حفظ كفتي الميزان بالمنطقة والاقليم تلعب فيه “امنا” امريكا دور كبير وان مصالحها العسكرية والامنية والاقتصادية وخاصة مع حليفتها الاستراتيجية اسرائيل.

اضافة الى قيام قطر بكثير من الادوار السياسية بالوكالة عن الولايات المتحدة في المنطقة تؤمن لعلاقات متميزة معها ولعل الايام المقبلة كفيلة بايجاد تفاهمات سياسية بينها وبين دول الخليج الاخرى وبذلك تؤكد قطر نجاحها مرة اخرى في ممارسة استراتيجية “التوازن العكسي” ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى