منى أبو زيد: تفاقم الدلال بتعاقب الأجيال!
منى أبو زيد: تفاقم الدلال بتعاقب الأجيال!
“المسئولية هي ثمن العظمة”.. ونستون تشرشل!
بعض قراء هذه المساحة من الرجال لم يتفقوا مع حديثي في مقال سابق عن أزمة الرَّجَالة التي حاقت بالمجتمع السوداني – من حيث التقصير في واجب الإنفاق الذي هو شرط القوامة – كظاهرة يتم النقاش حولها على استحياء، إلى أن جاءت هذه الحرب لتبرز ملامحها على نحو يصعب التستر عليه..!
ومن باب تحري النزاهة – والحياد الجندري – في مناقشة الظواهر الاجتماعية دعونا نعيد محاكمة المرأة السودانية العصرية في مقال اليوم..!
قبل سنوات من اندلاع هذه الحرب قصدتُ ذات يوم محلاً شهيراً لبيع “الآيس كريم” في الخرطوم، وعندما حان دوري لمحتُ طفلاً يرمق الأصناف الملونة بنفاذ صبر، فخاطبت أمه الشابة قائلةً إن بإمكان الطفل أن يأخذ مكاني حتى لا يمل الانتظار..!
انشغلتُ بمنح الطفل اللطيف أوسع ابتساماتي قبل أن انتبه لصوت الأم – الذي كان يشبه نغمات التنبيه في أجهزة الموبايل– وهي تطلب كرتين لطفلها، قبل أن تمعن في تقطيع الأفعال وشنق حروف العلَّة وهي تطلب المزيد والمزيد من كرات “الآيس كريم”، ثم تحمل أكياسها وتغادر وهي ترمقني بنظرةٍ جانبية وكأنها تعاقبني على فعلةٍ خرقاء قوامها اللطف والذوق ..!
وما زلتُ أذكر تلك الأم الشابة حديثة العهد بالأمومة، التي كانت أمها الستينية جارة لي. وكيف أن قدومي للتهنئة قد تزامن من خروج باقة من النساء المتأنقات، وما أن استويت جالسةً على الكرسي حتى تعالت شهقات الأم الصغيرة قبل أن تجهش بالبكاء..!
وحينما التفت نحو الأم الكبيرة مستفسرةً ضحكت وهي تخبرني بأن حديث الضيفات السابقات عن أوجاع الولادة وآلام المخاض قد أعادت إلى ذهن ابنتها تلك اللحظات العصيبة، فانهارت باكيةً وهي تطلب من أمها أن يتم حذف أي “ونسة” بهذا الخصوص من كل جلسات التهنئة مستقبلاً ..!
ومن عجبٍ أن مثل هذه الشخصيات من أمهات اليوم هنَّ الامتداد المتنامي لجيل الأمهات الرائع الذي بات مهدداً بالانقراض بعد أن زحفت عليه عوامل التعرية العصرية، وبعد أن ساهم ذات الجيل الأكبر في إفساده بإصرار الأمهات على تدليل بناتهن، كتعويض ربما عن الدلال الذي لم يحظين به في طفولتهن..!
أما النتيجة فهي انحسار معدلات النساء اللاتي يفهمن في الأصول ويحرصن على إحياء التقاليد والعادات الحميدة. يحزنني جداً أن تلك الكائنات الرائعة المليئة بالإخلاص والكبرياء والإنسانية قد باتت اليوم مهددة بالانقراض..!
ذلك الجيل من النساء اللاتي يعرفن تماماً ما يجب أن يقال وما ينبغي أن يفعل في كل موقف، مفاجئاً كان أم روتينياً، كرنفالياً كان أم مأساوياً..!
جيل السيدات الرحيمات الودودات المكتنزات اللاتي يجدن تنظيف الكمونية وتسبيك الدمعة وتظبيط الكوارع، بذات القدر الذي يجدن به اختيار الطلح الجيد والشاف الجيد، والمشاركة في صنع ولائم الأفراح والأتراح، وتوجيه صرفة الصندوق النبيلة على النحو الهادف البنَّاء الذي يقيل عثرات الأزواج ويصلح عجز الميزانية ..!
يحزنني جداً أن يحل محلهن جيل الأمهات العصريات النحيفات كفزاعات الطيور، الأنانيات كبخلاء الجاحظ، السطحيات كأغلفة الهدايا، المستاءات من كل شيء والراغبات في الحصول على كل شيء دونما أي كفاح، بل دونما جهد يذكر ..!
جيل الأمهات الجديدات اللاتي لا يجدن الحديث أو الخبيز أو الطهي، ولا توفير الأموال ولا تمييز الحال، واللاتي لا يقمن وزناً لفنون التواصل ولا يفهمن في الأصول ولا يجبرن الخواطر ..!