هناك فرق، منى أبو زيد: اطمئنان مُحيِّر!
هناك فرق، منى أبو زيد: اطمئنان مُحيِّر! | “الحقيقة النقية البسيطة نادراً ما تكون نقية، ويستحيل أن تكون بسيطة ” .. أوسكار وايلد ..!
راسلني أحد الزملاء الكرام بشأن تحليل راهن ومستجدات التفاوض عبر إحدى الإذاعات، وكانت الأسئلة تبدأ بكلمات على غرار “ما الذي يختبيء، ما مغزى، ما المتوقع، وما مصير”..!
فقلت لذلك الزميل إن تلك الأسئلة تقتضي تقديم تكهنات وليس تحليلات، في ظل انعدام الوضوح ونقص المعلومات الذي يحيط بالإعلام نفسه..!
لكنني تعثرت في اليوم التالي على شاشة إحدى القنوات الإخبارية بسيدة إعلامية، مختصة في الشأن السوداني، كانت تتحدث عن مجريات ومصير فشل آخر محادثات بشأن التفاوض لإنهاء هذه الحرب، باطمئنان مُحيِّر، بدا لي أنها كان تعول فيه على حفنة تكهنات رغائبية ليس إلا..!
الحقيقة في الفلسفة تعني تقاطع النظرية مع الواقع الخارجي، كما أرسى هيجل، والحقيقة في التصريح الإعلامي تعني الحصول على معلومة صحيحة ودقيقة عبر تصريح من مصدر رسمي موثوق ..!
وهذا ليس ترفا إعلامياً بل ضرورة ديمقراطية يخول غيابها للمحتج اتهام رئاسة الدولة بالتقصير “في أوروبا والدول المتقدمة طبعاً” ..!
أما في بلادنا فيبدو أن لعنة التصريحات الرسمية – من الغموض إلى الالتفاف إلى الإنكار – التي حاقت بحكومة الإنقاذ، والتي حاقت بحكومة ما بعد الثورة أيضاً، ما تزال تحيق بحكومة سودان ما بعد الحرب..!
التأصيل الصريح والنزيه لهذه الظاهرة يقتضي أن نستصحب “عشوائية الطرح، وفوضوية التلقي، وردود الأفعال ذات الزوايا الحادة” كثقوب كبيرة في ثوب التصريحات الحكومية، وعوامل أصيلة في فشل تأثيرها، وأسباب رئيسة في معظم خيباتها الإعلامية..!
تفاوت التصريحات الحكومية حيناً وتنازعها أحياناً آفة، ما بالك بتناقضها وغرابتها المطلقة، ثم ما قولك في غيابها؟. في مسألة التفاوض تحديداً نحن كشعب بحاجة إلى فتح ملفات السكوت في معرض الحاجة إلى البيان ..!
في السبعينيات نشرت صحيفة النيويورك تايمز وثائق خطيرة من عرين البنتاجون حول حقيقة الدور الأمريكي في فيتنام، وعرضت للشعب حقائق موثقة عن وضع الجيش الأمريكي والأعداد الحقيقية للقتلى هناك. فساهمت الصحافة الأمريكية – بذلك – في تجنيب بلادها المزيد من فواتير الحرب، وسلاحها تحقيق صحفي واحد مارست فيه حقها الوطني في الاستقصاء ..!
الصحافة هي الحارس الشخصي لكل الحقائق والأكاذيب في هذا العالم، والدليل على ذلك أن العديد من الحكام الذين أسقطتهم ثورات الربيع العربي قد واجهوا قبل ذلك الكثير من الاتهامات بالفساد، لكن صمت الصحافة – عن كل شيء عدا ضخامة الإنجازات في عهودهم – كان بارعاً في تبديدها..!
بينما قد يواجه ذات الحاكم في الدول المتقدمة – في شئون وشجون الحريات – فضيحة حصوله على قرض مالي ميسر من أحد أصدقائه المستثمرين، لكن الفضيحة من وجهة نظر الإعلام في بلاده قد تكون اتصالاً هاتفياً أجراه مع صحيفة محلية لمنع نشر الخبر ..!
الصحافة السودانية لسان حالها حكمة المتنبي “وأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشأكل”، لكنها لا تستطيع أن تعول عليها في علاقتها مع السلطة، لأن ذلك يعني- ببساطة – أن تفقد مصدرها الشرعي الوحيد للحصول على المعلومة ..!
ولأن الصحافة في بلادنا لا تملك حرية الاستقصاء ستظل تعيد إنتاج التصريح خبراً، ثم رأياً بشأنه، ثم استطلاعاً أو تحقيقاً حول آثاره وتداعياته، ثم حواراً مع هذا المعسكر أو ذاك الحلف عن خلفياته ودلالاته، وهكذا ..!
إلى أن تسقطها ثورة قاريء، أو ينقذها انقلاب إصلاحي..!