هناك فرق، منى أبوزيد: على صعيد آخر!
هناك فرق، منى أبوزيد: على صعيد آخر! | “الشعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة تموت نتيجة لتناول الدواء الخطأ” .. الصادق النيهوم!
من أبلغ ما قيل في تعريف الضحك تلك اللوحة السريالية التي رسمها له المؤرخ السينمائي السوفيتي “يورنيف” عندما قال “إن الضحك يمكن أن يكون سعيداً أو حزيناً، طيباً أو قاسياً، متعالياً أو كسيراً، ودوداً أو عدوانياً، ملتوياً أو مباشراً، لعوباً أو ساذجاً، رقيقاً أو بذيئاً، إنه متعدد المعاني وبلا معنى..!
الضحك إذن بحسب ذلك التعبير الفني البديع هو كائن حي يمشي على قدمين، ترعاه روح الضاحك وتغذيه طرافة المضحوك عليه..!
الكوميديا السودانية قدمت عملاً لفخري خالد وإخلاص نور الدين وشيرين السيد، ذاع صيته وأصبحت بعض مقاطعه “تريندات” يتبادلها مختلف التيكتوكرز الخليجيون، وكان بعض المضحوك عليه – عبرها – قاسياً وإن بقي طريفاً..!
يوم أمس نشرت هذه الصحيفة حواراً أجراه الزميل محمد جمال قندول مع الأستاذ فخري خالد ضمن سلسلة بعنوان “نجوم في الحرب”. وفي الحوار استوقفتني جملة مُرعبة قال بها الأستاذ فخري، فأمسكت بتلابيبي، وهزتني، وأبكتني..!
“لا يهم أنني لاجيء، المهم هل سنرجع؟. هذا هو السؤال”. هكذا تساءل ضيف الحوار على نحو أكثر جرأة ووضوحاً من صياغتنا لعبارات غائمة كثيرة ظللنا نرددها كلما ضاقت بنا الحال في مناطق النزوح ودول اللجوء، وكلما اكتظت همومنا وأفكارنا العائمة في مياه الاحتمال..!
سكان مدينة فاروشا القبرصية التي فاجأها الاجتياح التركي – قبل أكثر من نصف قرن – غادروها وهم يظنونه أسبوعاً واحداً لا أكثر. لكنها تحولت إلى مدينة خالية من السكان لعقود طويلة. واللاجئون الفلسطينيون ما زالوا يتوارثون الهوية ونصرة القضية ومفاتيح بيوتهم القديمة. يا إلهي..!
يا للهول!. لله ما أقسى مثل هذه الأفكار العابرة، وما أشد وقعها علينا، نحن، هذا الشعب الذي خرج من أتون ثورة ليدخل في جحيم حرب اجتمع حطبها وعويشها من أخطاء ساستنا وحكامنا، وتكون وقودها – خلال تعاقب السنوات – من كوارث سلوكنا الجمعي..!
لماذا كان يكثر الفقراء المتعففون ولماذا كان يكثر الشحاذون المحتالون في سودان ما قبل الحرب؟. لأن ولاة أمورنا في هذا البلد كانوا يعتبرون الدين تراثاً وليس كسباً، ولأنهم – والحق أوجب أن يقال – ظلوا يتعاملون مع أرواح نصوص القرآن والسنة من وراء حجاب الأسانيد والعنعنة، وظلوا يتعاطون مع قيمة أرواح رعاياهم من الضعفاء والفقراء من خلف غلالة المبررات والفهلوة ..!
الخُطَب التي تَحُثُّ على الإنفاق كانت تملأ أركان المساجد، والصدقات كانت تخرج من جيوب المحسنين طوعاً أو كرهاً. لكنها آفة الفرق بين الحرص على إقامة الشرع والاكتفاء بتأدية الشعائر..!
مشكلة الفقر في بلادنا لم تكن بسبب إحجام الناس عن أداء فريضة الزكاة أو إخراج الصدقات، بل بفعل غموض أو عشوائية أوجه إنفاقها، ومدى استحقاق من تذهب إليهم ..!
الإحصائيات الصادمة عن نسب الفقر في بلادنا كانت توجع كل ضمير حي، والعمل على محاربة أسبابها شأن كان يخص كل مواطن يخرج في تصنيفه الاجتماعي عن دائرة الفقراء والمساكين لكننا لم نفعل..!
كانت إذن مسئولية اجتماعية، جماعية، مسئولية الإنسان تجاه أخيه الإنسان. وكنا بحاجة إلى أن يتبنى بعض “المسئولين حقاً” من مختلف فئات هذا الشعب برامج جادة لتعميق أوجه الإنفاق المثمر، وغرس ثقافة ترشيد التبرع والنفاق، لكننا لم نفعل..!
الجوع في هذا البلد كان يحتاج عوناً ذاتياً والتفافاً شعبياً حول أصل المشكلة. ما كان يعقل بأية حال أن يبيت الشحاذون – الذين يتخذون التسول مهنة – وهم متخمون، بينما المتعففون جوعى، لكننا لم نكترث..!
بعداً عن تدابير المسئولين لماذا لم نوقد شموعنا الذاتية، ولماذا لم نضع في حسباننا مثلاً أن بضعة جنيهات في كف من نعلم أنه محتاج رغم تعففه أوجب من الإسراف على بعض الكماليات، وأولى من التصدق على شحاذ نعلم أنه مخادع ..!
لماذا لم يفكر الأغنياء في إجراء بعض المسوح الميدانية على حراس المنازل “تحت التشييد” في مناطق إقامتهم مثلاً. لماذا لم يقوموا بإحصاء عدد الفقراء المتعففين خلف كل باب مغلق في أحيائهم ..؟
هل يعقل أن يقتطع معظم الآباء من كل الطبقات شيئاً من ميزانية إنفاقهم لصرفها على حفلات تخريج صغارهم من رياض الأطفال ومدارس الأساس، بينما أطفال غيرهم لا يجدون ما يسد رمقهم في وجبة إفطار ..؟
بعض صور الظلم والقهر في سودان ما قبل الحرب لم تكن محتملة، ومعظم الناس في هذا البلد كانوا بحاجة إلى صحوة ضمير تمسك بهم من أكتافهم، وتهزها هزاً، بحثاً عن بعض الإنسانية..!
فهل تنجح هذه الحرب في إقناعنا بتغيير ما بأنفسنا حتى يغير الله ما بنا؟