قرنفل في زمن الحرب | د. أميمة عبد الله.
قرنفل في زمن الحرب | د. أميمة عبد الله | بدأ الصباح عاديا، حتى أن الشمس لتوها طلعت، أيقظته زوجته كما تُوقظ أبناءها للمدرسة، إلا أنه تنحنح قليلاً، إنقلب على جنبه الآخر دون أن يفتح عينيه.
– اتركيني أنام، لا شيء مهم اليوم.
– لدقائق فقط.
على غير العادة قالت جملتها وخرجت، تركته دون توجيهات أخرى أو إضافة نصح عن أهمية الصباح واليوم الباكر والذهاب إلى المكتب بنشاط.
حمد الله أنها خرجت إلا أن جفنه لم يغمض، ولم يكن يستطيع، كانت زوجته كثيرة الكلام، كل شيء هنا بأمرها، تتابع الأحداث اليومية بدقة، لقد طورت مع الأيام هذه المهارة، حتى أنه كان يخشى أن يكون الخدم قد تجاوزوا وجوده، تُملي عليه ما تريد،
تختار له ملابسه وأصناف أكله، تختار أوقات السفر ووجهة إجازة العام، الأولاد ينتظرون رأيها، والبنات منذ الصِغر ينظرن دائماً إلى عينيها عند وجود ضيوف، تفرض عليه ما تريد، تراجع هاتفه، إتصالاته ورسائله وحركة أمواله، تأخذه منه ما إن يدخل غرفتهما، كأنه تلميذ.
لم يكن في بداية حياته معها يهتم لتلك السلطة، كانت بارعة فيها وقد سمح لها، ومع ذلك كانت كثيرة الشك به وتنتظر منه أن يهيم بها وأن يرد لها الجميل الذي طوقته به، حباً وإخلاصاً، كانت تسأله دائما قدراً أكبر من الحب. وكان كل ذلك يرهقه، إنه الآن عاجزُ تماما عن عطاء الحب، ومع ذلك يحفظ لها أنها تصغره بخمسة وعشرين عاماً، وقد قبلت به وهو كان تاجراً يملك متجراً صغيراً عند مدخل سوق أمدرمان الكبير إلا أنه كان وسيما، وهى كانت جميلة وقِبلة الأنظار.
كانت ترى أن ذلك الطوق الذي خنقته به جميلاً يجب أن يُرد، وكأنها قبلت بالزواج منه وقتها لتلبسه هذا الطوق، بل أنها كانت ترى أن مجرد زواجها منه عطاءً ما كان يحلم به وهي التي تصغره بكل هذه الأعوام، وهكذا أصبحت الخمسة والعشرين عاماً عبئاُ لم يعد يحتمله، متناسيةً أنها به وبمساعدته اللامحدودة قد صارت طبيبة متخصصة في جراحة الأعصاب ومشهورة.
بالأمس دخل غرفتهما، وجدها تتصفح أوراقه التي كان أحضرها معه من مكتبه لمراجعتها في البيت، عندما مد يده لأخذ الحقيبة، استوقفته، أنها تريد أن تقرأ كل الأوراق، أن تعرف حركة البضائع عنده كيف تسير، وكم سحب من مال شركته، كان الأمر عادياُ بالنسبة لها، ظل مشهد بحث يدها داخل حقيبته وهو واقف ينتظرها عاجزاً عن حماية أوراقه، دون أن يجروء على سؤالها، عالقاً بذهنه، لكنه إنتبه، لم تعد له كلمه هنا، ولم تكن لتكترث أو تخشى غضبه.
وعلى صدره يرقد الكثير من الكلام، دفن بعضه في أقصى أركان قلبه، لقد ملّ حياته وضاق بها حتى أنه لم يعد يتذكر متى بالضبط بدأ يشعر بتسرب عمره، كم عدد الأيام التي كانت تتصل فيها لتخبره أن يأتي إلى البيت الآن لأنها تحتاجه؟ ليس لها عدد، كثيراً ما يترك أصدقاءه لأنها لا تحب أن تكون في الليل وحدها، وكان أصدقاؤه يتندرون عليه، إلا أنه كان لا يأبه، ويؤثر السلامة والتخطي، يستجيب لكل ما تقول ويحقق كل ما تطلب.
دخلت مرةً أخرى بعد إنقضاء دقائقها التي نبهته سابقاً لها، أزاحت الستائر، فتحت النافذة ورفعت عنه الغطاء، قام دون أن يُبدي أي ملاحظات.
كسى وجهه بجمود حتى لا يترك لها مساحة كلام أو توجيه الأسئلة المعتادة. رتب حاله وخرج.
وهو يفتح باب مكتبه، طلب من سكرتيره الفطور والشاي، وأكمل أنه لا يريد أن يدخل عليه أحد، أراد أن يتناول فطوره لوحده.
جلس على كرسي مكتبه الأسود الفاخر وبدأ يغوص في أعماقه، يتسلل إلى دواخله الغريبة عنه، يتيح لنفسه فرصة هدوء ليتعرف عليها، زمانٌ طويل وهو يتجنب الجلوس مع نفسه، يخاف الأسئلة والمواجهة، أن يسأل نفسه عن أيامه، وكيف أنقضت السنوات،
وبدأ الشعر يشيب والذقن، كل ذلك الاهتمام الذي تحيطه به، لم يكن من أجله ولم يكن إهتماماً بل كان من أجل أن تشبع رغبة السيطرة عندها، وأن تجد لها شخصاً يفعل لها ما تريد ويحتمل ما تفعل.
لقد عاشا معاً عشرين عاماً دون أن تلمس شيئاً في دواخله، أو تطمئنه بالحب، أو أن ترفق بالحنان عما يعانيه من صعوبات في السوق، ظل عالمه الداخلي محصناً عنها كأنه قلعة، كانت زينب إمرأة عالية القوام، قمحية البشرة، واسعة العينين، جميلة الملامح، كثيرة الكلام ولها رأيٌ في كل أمر، يصعب عليها السكوت، بخيلة في عبارات الحب، إلا أنها رقيقة عندما تريد شيئاً يتعلق بها، متعتها متابعة أخبار المحيطين بها وإصدار الأحكام في تصرفاتهم.
بدأ شأنه يتبدل منذ ذلك اليوم، يستيقظ على غير ما اعتاد، يخرج دون أن يتحدث إليها، لا يمكث في مكتبه الخاص إلا ساعتين أو ثلاثة، ثم يترك إدارة ما تبقى من مهام لمدير مكتبه وصديقه المخلص أيوب، وكان هذا التبدل يزعجها أكثر من كل شيء، أتعبتها تصورات عقلها وخيالات فراغها، لماذا تبدل حاله؟ وكان نتيجة ذلك أن ضاعفت أسئلتها.
فتر حماسه تجاه بيته، وكان من الطبيعي أن يتحلل من بعض الإلتزامات والمسوؤليات تجاهها، ترك لها شؤون البيت والأولاد، وانصرف لنفسه، بدأ يكتشف أن هنالك أوقاتاً رائعة أحسها للمرة الأولى رفقة أصدقائه، وأنه يمكنه أن يجلس ساعات مع نفسه دون أن يملها، ويمكنه أن يتناول الشاي بالحليب في أوقات العصر، عادة ورثها من والده، وهي التي لطالما حرمته إياها بحجة أنها عادة قروية.
كان يدعو الله أن تنقلب الدنيا فجأة فيتغير الحال أو أن تسافر لأهلها في أقصى شمال البلاد، أو أن يُرسل الله له النجاة بأي شكلٍ، المهم أن يخرج دون أن يعود للبيت مرة أخرى.
في بداية عهده بزواجه كان يظن أن الأيام القادمة ستكون أحلى، وأن شهر العسل الذي تحدث عنه أصدقاؤه ليس شرطاً أن يكون في بداية زواجه، وهكذا ظل ينتظره عاماً بعد عام حتى قامت الحرب في أحد صباحات منتصف أبريل.
قامت الحرب الشاملة في البلاد قبل أن يغادر العارف أمانيه، كان قد قرر فجأة أن يتوقف عن تخزين المال وتكديسه، وأن يسافر في عطلة بمفرده، ترك شؤون شركته لصديقه أيوب وسافر، بعد أسبوع واحد من سفره قامت الحرب وتعطلت حركة الطيران بعد أن تم إستهداف مطارات بلاده، وتحققت أمنية خروجه كما لم تتحقق له أمنية من قبل بهذه السرعة ومر عامان دون أن تتاح له فرصة لقاء أبنائه وزوجته.
غادرت مدينة الخرطوم إلى أهلها في أقصى شمال البلاد، وظل هو في تلك الدولة الأوروبية بعيداً.
رغم النكبة الكبيرة التي كانت تمر بها البلاد والحرب المستعرة إلا أن تفكيره بزوجته بدأ يتضاءل وازداد الإعتياد على الحياة بدونها، كان طعم الحرية الحديث عليه رائعا، صار باستطاعته أن يقرأ وقتما يشاء وأن ينام والأنوار مضاءة دون أن يزعجه توبيخها، وصار يرتدي التي- شيرت الملون في المساء عند لقاء أصدقائه، بل و أستطاع أن يكسب أصدقاءً جدد،
وأكثر من ذلك صار يتصفح أوراقه وهاتفه في غرفته الخاصة دون ان يخفق قلبه من مراقبتها اللصيقة، أخذ يلاحظ أن وسامته القديمة قد عادت تدريجياً إليه، وأن وزنه أصبح مثالياً، إجتهد العارف ألا يُظهر سعادته للآخرين ، فالوقت غير ملائم والناس من حوله يشق قلبها الحزن على البلاد، إلا أن مشاعر السعادة الخفية كانت تبان أحيانا من بريق عينيه فيسرع في إدعاء الحزن.
إستاجر العارف مع أحد أصدقائه الجدد مكتباً صغيراً لمتابعة أعماله، وسع دائرة معارفه وأصبح يتناول أكله في المطاعم، وتخلص تماماً من عادة الإستيقاظ المبكر وعمت فوضى ملابسه وكتبه شقته الصغيرة.
كان يتصل بهم مرة واحدة من هاتف عمومي كل أربعة أشهر دون ان يترك لهم رقم هاتفه.
لقد أخذ زمناً طويلاً في ترميم نفسه.
– لو أنه كان مقاتلاً لانصرف تفكيره في إتجاهٍ مختلف.
هكذا كان يفكر، وبما أنه شخص عادي كانت فترة الحرب هذه فرصة رائعة له أن يتستعيد نفسه من مكامنها البعيدة، ويتلمس شوقه للهدوء والصمت.
كما أنه تلمس رغبته في صحبة غرباء بعيداً عن محيط معارفه، أيقن أن التعافي يتحقق بالإبتعاد، وبناء النفس يبدأ من الداخل والنور من القلب يخرج وما مضى ليس بالضرورة أن أكون أنا وإنما هي نسخة مني لتلك المحطة، إبتسم العارف وقد هيىء له أن من الأنحاء تتسلل إليه رائحة قرنفل.
نص قصصي
أميمة عبد الله